الأخرس
قصة محمود البدوى
كنت أسير مزهوا فى حى البنوك بالإسكندرية وفى قلبى الفرحة لتأميمها فقد أحسست بعد كل هذه السنين الطويلة من الإستغلال الأجنبى بأنى أضع قدمى على أرضى ولم أعد دخيلا على هذا الحى ..
وكانت الساعة الثامنة مساء .. واليوم يوم الأثنين والمتاجر لا تزال مفتوحة ، فأخذت أستعرض ما فى واجهتها من ملابس جاهزة وعطور وادوات الزينة ولم أكن أبغى أن أبتاع شيئا بعينه .. ولكن وجود هذه الأشياء أمامى بطريقة منسقة ومغرية .. جعلنى أفكر فى شراء هدية لوالدتى ..
ورأيت حقيبة سوداء أنيقة من الجلد الفاخر فى واجهة متجر وبجوارها ورقة صغيرة مكتوبة بالفرنسية تعلن عن غرفة مفروشة للإيجار تطل على البحر فى حى كليوباترا والإستعلام بالداخل .. ولم أكن فى هذه اللحظة أفكر فى استئجار غرف أو ما هو من هذا السبيل ولكن حب الإستطلاع أدار فى خاطرى أن أسأل عن موقعها وإيجارها فقد تروق فى نظرى وأنتقل إليها وأترك الفندق ..
ودخلت من باب صغير إلى متجر مستطيل ولا عرض له .. وكانت منضدته مستطيلة بطول المحل كله وأشبه بالمناضد التى ترى فى الحانات .. ولكن المتجر مع رسمه هذا غير المألوف كان جميلا وبالغا حد الروعة فى التنسيق وطريقة عرض البضائع ..
وبرزت أمامى فتاة ممشوقة القوام .. جميلة تقاطيع الوجه .. فسألتها عن الحقيبة .. ورأيت أن أرجىء السؤال عن الغرفة إلى حين .. فأخرجت لى عدة حقائب من صناديقها المزركشة .. وأخذت تعرض مزاياها وما فيها من محاسن..
وتناولت واحدة منها .. وقلبتها تحت بصرى ولما قرأت الفتاة التردد على وجهى أمسكتها بيدها .. وأخذت تقبل بها وتدبر منسابة برشاقة فى طول المحل .. لأرى الحقيبة رأى العين على الطبيعة فى يد الحسناء .. ولأقطع حبل التردد ..
وفيما أنا أستدير وقد أعجبت بحركة الفتاة أكثر من أعجابى بالحقيبة التى فى يدها .. لمحت رجلا ضخما جالسا فى الداخل فى العتمة الشاحبة .. وكان صامتا وجامدا كالتمثال .. وقد عجبت لسكون طائرة .. وسكون جوارحه .. فإن الزلزال وحتى النار نفسها كانت لا تحركه من مكانه فى هذه الساعة .. ولمحته يرقب كل شىء بهدوء وخمول عجيبين .. فأغفلت وجوده كله ..
وطلبت من الفتاة أن تخفض لى الثمن .. والظاهر أنه سمعنى .. فقال بصوته المجلجل كجرمه :
ـ أذهب حضرتك إلى هانو .. بجوارنا .. وسترى بكم تباع هذه هناك ..
ـ المسألة بسيطة ياخواجه .. !!
ـ لأجل خاطرك سننقصها نصف جنيه ..
ولم أكن أطلب المزيد .. وأخرجت ورقتين من جيبى بعشرة جنيهات .. وتناولت الفتاة المبلغ ودفعته إلى عاملة الخزينة .. وعادت تحمل لى الباقى ..
ولما أخذت تلف الحقيبة وتغلفها .. سألتها عن الغرفة المفروشة المعروضة فى الفترينة .. فقالت لى انها فى شارع البحر وإيجارها عشرون جنيها فى الشهر ..
فقلت لها على الفور ..
ـ أحب أن أراها ..
ـ دقيقة واحدة ..
وهنا سمعت من يقول :
ـ من الذى يسأل عن الغرفة .. ؟
وبرزت من الداخل سيدة مكتنزة حمراء الخدين .. ترتدى فستانا على اللحم .. ورمقتنى بنظرة فاحصة .. وبادلتها نظرة مثلها .. وأنا أجد لها شبها بالرجل الجالس فى الداخل .. وخمنته شقيقها .. فقد كانت تشبهه إلى حد بعيد ..
وقلت لها بصوت قد أخذ بحلاوة تقاطيع وجهها رغم ما فيها من سمنة :
ـ أنا يا سيدتى .. يسرنى أن أراها ..
ـ بمكنك أن تذهب فى أى وقت .. وهذا هو العنوان ..
وكتبت بخط متأنق شيئا على ورقة صغيرة ..
وكانت الغرفة فى الدور الثالث فى بناية حديثة فى نهاية حى كليوباترا ولها شرفة صغيرة تطل على البحر .. وأمامها السلم المؤدى إلى الشاطئ وكانت مفروشة ببساطة .. فالشقة نفسها أنيقة وليس فى البيت أطفال .. فكانت فى واقع الحال وفق مناى .. ولذلك رأيت أن أنتقل من فندق هايد بارك إليها دون إبطاء وأن أحجزها مدة شهرين .. فأروح وأجئ من القاهرة إليها كلما شعرت بالحاجة إلى نسيم البحر .. وحملت حقيبتى .. وانتقلت إلى الغرفة فى مساء اليوم نفسه ..
ومن خلال حديث عابر عرفت مدام مارى أننى أشتغل فى مكتب المحاسبة وأعرف شئون الضرائب فسرت جدا .. ورجتنى أن أراجع دفاتر المحل .. فى الساعات التى أختارها فى الصباح أو بعد الظهر .. وأطلب الأجر الذى أريده..
ولم أكن أبغى أن اقوم بأى عمل وأنا أصطاف .. ولكننى وجدتها مسكينة .. وفى حالة ارتباك ودفاترها فى غاية السوء .. فأشفقت عليها وجلست إلى مكتب فى داخل المحل وأخذت أعمل كلما وجدت الفرصة مواتيه وساعة الفراغ ..
ومن اليوم الأول وأنا أراجع الدفاتر فى المتجر شعرت بإنتعاش وجو من الألفة جعلانى أواصل العمل بأمانة .. ولم أدر أكان ذلك لأنى أشغل غرفة صاحبة المتجر وأنام فى بيتها أو لأنى كنت أشم العطر فى كل ساعة ..
وكان فى المتجر ثلاث شابات عاملات فيهن مصرية واحدة .. وفراش عجوز .. وكان نشطا رغم شيخوخته ..
وكانت مدام مارى أبدا مرحة ومنطلقة على هواها .. ولاحظت دخول شاب أجنبى من الباب عدة مرات فى الساعة التى أكون موجودا فيها ..
وكانت المدام تناديه بكوستا .. وكان يعمل فى محل بن مجاور .. وظهر لى أنها متيمة به .. فكانت تجعله يقضى كل وقته معها ويتخلف عن عمله وتطلب من المحل قهوة وشايا وشيكولاته دون حاجة حقة .. لغرض أن تراه ويكون ملاصقا لها ..
وكانت تغازله بشكل مكشوف أمام عمال متجرها ..
وكانوا جميعا يتضايقون من كوستا .. ويكوهونه ..
وكان يتردد على المتجر شاب مصرى فى حوالى الثلاثين .. وكانت مدام مارى تسأله فى كل مرة :
ـ عملت أيه يا شيخ عبد الحفيظ .. ؟
ـ المسألة ماشيه .. بعد اسبوع حتعرفى النتيجة ..
وحدثتنى المدام بعد أن خرج .. أنه يسعى ليكسب الجنسية المصرية لزوجها ..
وسألتها :
ـ وما دخله وصفته فى الموضوع .. ؟
ـ إنه يعرف كل ذوى السلطان فى الإسكندرية ..
وخمنت أنه يستغلها .. ولم أشأ أن أعرفها الحقيقة ..
وفهمت من كلامها أنها أعطته مبلغا ليسهل لها الأمور ..
وكان الشيخ عبد الحفيظ أنيق الهندام مرحا خفيف الظل .. ومع أننى كنت على يقين أنه أستغل حاجة المدام وسذاجتها وأنه يضحك عليها ولا يقوم لها بأى عمل .. ولكننى كنت استلطفه وما من مرة دخل فيها المتجر إلا وحوله إلى عاصفة من المرح ..
وكان صغير الوجه مدور العمامة .. وكاكولته دائما مفتوحة وممتلئة بالهواء ..
ولم يكن يزاول أى عمل على أى وجه من الوجوه فى مدينة الإسكندرية ومع ذلك كان عامر الجيب .. ويصرف بسخاء .. وكل من فى المدينة يعرفه ..
فعذرت المدام وهى تسعى إليه بعد أن قدرت ما هو عليه من جاه وسلطان ..
وكان البرتو زوجها الرجل السمين البليد الطبع الذى يظل قابعا فى داخل المتجر ويرى زوجته تغازل الشباب وتضاحكهم أمام بصره ولا يحرك ساكنا ولا ينطق بحرف .. يحرك لواعجه إلى الفتاة العاملة على الخزينة ..
فكانت أجمل العاملات فى المتجر .. وظهر لى جليا أن الفتاة المسكينة واقعة تحت سيطرته تماما .. وعرفت أنها دفعت ثمن تشغيلها عنده .. وأنه كان يهددها بالطرد إن لم تستجب إلى رغبته .. فوقعت تحت سلطانه تماما ورضيت بالهوان.. وكانت تخضع لرغباته وتكرهه بكل قلبها ..
وكنت أقرأ فى وجهها العذاب والصراخ الأخرس كلما رأيته يقترب منها ليحادثها .. ولقد قر قرارى بعد شهر من عملى فى المتجر .. أن أخلص هذه الفتاة المسكينة ـ وكانت يتيمة وتعول أمها ـ من براثن هذا الوحش وأن اسعى إلى توظيفها فى متجر آخر وقد أكتسبت خبرة كعاملة للخزينة ..
وكانت مدام مارى تذهب إلى المتجر بإنتظام عدا أيام الآحاد ومساء السبت .. فإنها كانت تقضيهما فى البيت أو فى نزهة خلوية على البحر ..
وفى صباح يوم من أيام الآحاد رأيتها تسرف فى الزينة والتعطر .. ثم ظلت ساعة قلقة حتى جاءها كوستا .. وأخذها إلى شاطئ العجمى ..
ومر الأسبوع الأول من شهر سبتمبر .. وقد وجدت ما يربطنى بالإسكندرية إلى نهاية الشهر ..
وفى عصر يوم رأيت وأنا داخل البيت شخصا جديدا لم أره من قبل .. وكانت المدام جالسة قبالته على كرسى طويل وفى فمها السيجار ..
وكان شابا مصريا فى الخامسة والعشرين من عمره نحيلا أسمر براق العينين وكان يعمل فى الطقم الذى فى الصالة ويغير الكسوة..
وأدركت بعد فترة وجيزة أنه أخرس لما لم يرد تحيتى .. وجلست معهما لحظات أراقبه وهو يعمل ببراعة وحدثتنى المدام أنه اعتاد أن يقدم عليها مرة فى السنة .. يجدد الفراش والمراتب والمخدات ويغير الكسوة إن احتاجت إلى تغيير وأنه منذ خمس سنوات وهو يجئ إليها فى مثل هذا الشهر ولم يتاخر قط عن موعده ..
وظل فى البيت أسبوعا كاملا يعمل إلى ساعة متأخرة من الليل ..
وكان يذهب فى الليل إلى جهة « الحدرة » لينام ويجيىء مبكرا فى الصباح .. والواقع انه كان شعلة نشاط ليس لها ضريب .. واستطعت أن أتفاهم معه تماما بالإشارة ولاحظت أنه أخذ يعنى عناية خاصة بالغرفة التى أشغلها ويغير فراشها إلى شىء جديد ترتاح له العين ..
وكان مرحا وضاحك السن .. ولاحظت أن مدام مارى لا تحتشم فى ملابسها أمامه فقد وجدتها مرة لابسة قميص النوم على اللحم وجالسة بجانبه تراقبه وهو يعمل بأبرته .. وكان السكون يخيم على البيت ..
وكان هناك شىء قد أخذ ينمو على توالى الساعات والأيام والليالى فى عقل الأخرس وقلبه .. حتى أحب مدام مارى .. وتيم بها صبابة .. وكان يلاحظها بعينيه ويراقبها وهى رائحة غادية فى البيت وجالسة أمامه ومطلة من الشرفة على البحر .. وصانعة له فنجان الشاى .. ومقدمة له صحن الطعام ومحدثته بيدها .. ومحركة شفتيها وعينيها .. وكاشفة له عن صدرها ..
وكان ينظر إلى عينيها ويستغرق فى التأمل .. ويستغرق فى الدوامة التى تلفه ..
وكان يعيش فى شبه غيبوبة مطلقة وهى أمامه متنفسا أنفاسها وسامعا حركة أقدامها ..
وكان كلما بعد عنها يرجع إليها .. وفى قلبه شحنة من العواطف الدافئة..
وكانت بعد هذه السنوات الخمس من الحب الأخرس .. وقد ناهزت الخمسين وهو فى الخامسة والعشرين .. وزاد قلبه صبابة .. وجسمه اشتعالا ..
ولم تكن تحس به ولا تدرى من عواطف قلبه شيئا ..
والتقيت به ذات ليلة وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء .. نازلا على السلم فراعنى أن وجهه أصفر كوجوه الموتى .. ولما حييته رد بفتور وهو سارح البصر ..
ولما دخلت البيت سمعت صوت كوستا فى غرفة مدام مارى .. فأدركت سبب غضب الأخرس ..
ومر يومان وأقتربنا من نهاية الشهر .. وكان كل شىء عاديا فى البيت والمتجر .. وفى نصف الليل .. وكان السكون يخيم استيقظت على صرخة مفزعة .. ولما خرجت أهرول من غرفتى .. وجدت كوستا مضرجا بدمه فى الصالة .. والمدام مرتمية على جسمه وقد أصابتها مثل طعناته ..
وكان الأخرس .. على بعد متر واحد منهما .. ولا يزال ممسكا بالسكين . ووجهه الشاحب قد سكن تماما .. ولا يبدو عليه الخوف من شىء ..
================================
نشرت القصة بصحيفة المساء 12/12/1962 وأعبد نشرها فى مجموعة " عذراء ووحش " و بمجموعة " قصص من الإسكندية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================
قصة محمود البدوى
كنت أسير مزهوا فى حى البنوك بالإسكندرية وفى قلبى الفرحة لتأميمها فقد أحسست بعد كل هذه السنين الطويلة من الإستغلال الأجنبى بأنى أضع قدمى على أرضى ولم أعد دخيلا على هذا الحى ..
وكانت الساعة الثامنة مساء .. واليوم يوم الأثنين والمتاجر لا تزال مفتوحة ، فأخذت أستعرض ما فى واجهتها من ملابس جاهزة وعطور وادوات الزينة ولم أكن أبغى أن أبتاع شيئا بعينه .. ولكن وجود هذه الأشياء أمامى بطريقة منسقة ومغرية .. جعلنى أفكر فى شراء هدية لوالدتى ..
ورأيت حقيبة سوداء أنيقة من الجلد الفاخر فى واجهة متجر وبجوارها ورقة صغيرة مكتوبة بالفرنسية تعلن عن غرفة مفروشة للإيجار تطل على البحر فى حى كليوباترا والإستعلام بالداخل .. ولم أكن فى هذه اللحظة أفكر فى استئجار غرف أو ما هو من هذا السبيل ولكن حب الإستطلاع أدار فى خاطرى أن أسأل عن موقعها وإيجارها فقد تروق فى نظرى وأنتقل إليها وأترك الفندق ..
ودخلت من باب صغير إلى متجر مستطيل ولا عرض له .. وكانت منضدته مستطيلة بطول المحل كله وأشبه بالمناضد التى ترى فى الحانات .. ولكن المتجر مع رسمه هذا غير المألوف كان جميلا وبالغا حد الروعة فى التنسيق وطريقة عرض البضائع ..
وبرزت أمامى فتاة ممشوقة القوام .. جميلة تقاطيع الوجه .. فسألتها عن الحقيبة .. ورأيت أن أرجىء السؤال عن الغرفة إلى حين .. فأخرجت لى عدة حقائب من صناديقها المزركشة .. وأخذت تعرض مزاياها وما فيها من محاسن..
وتناولت واحدة منها .. وقلبتها تحت بصرى ولما قرأت الفتاة التردد على وجهى أمسكتها بيدها .. وأخذت تقبل بها وتدبر منسابة برشاقة فى طول المحل .. لأرى الحقيبة رأى العين على الطبيعة فى يد الحسناء .. ولأقطع حبل التردد ..
وفيما أنا أستدير وقد أعجبت بحركة الفتاة أكثر من أعجابى بالحقيبة التى فى يدها .. لمحت رجلا ضخما جالسا فى الداخل فى العتمة الشاحبة .. وكان صامتا وجامدا كالتمثال .. وقد عجبت لسكون طائرة .. وسكون جوارحه .. فإن الزلزال وحتى النار نفسها كانت لا تحركه من مكانه فى هذه الساعة .. ولمحته يرقب كل شىء بهدوء وخمول عجيبين .. فأغفلت وجوده كله ..
وطلبت من الفتاة أن تخفض لى الثمن .. والظاهر أنه سمعنى .. فقال بصوته المجلجل كجرمه :
ـ أذهب حضرتك إلى هانو .. بجوارنا .. وسترى بكم تباع هذه هناك ..
ـ المسألة بسيطة ياخواجه .. !!
ـ لأجل خاطرك سننقصها نصف جنيه ..
ولم أكن أطلب المزيد .. وأخرجت ورقتين من جيبى بعشرة جنيهات .. وتناولت الفتاة المبلغ ودفعته إلى عاملة الخزينة .. وعادت تحمل لى الباقى ..
ولما أخذت تلف الحقيبة وتغلفها .. سألتها عن الغرفة المفروشة المعروضة فى الفترينة .. فقالت لى انها فى شارع البحر وإيجارها عشرون جنيها فى الشهر ..
فقلت لها على الفور ..
ـ أحب أن أراها ..
ـ دقيقة واحدة ..
وهنا سمعت من يقول :
ـ من الذى يسأل عن الغرفة .. ؟
وبرزت من الداخل سيدة مكتنزة حمراء الخدين .. ترتدى فستانا على اللحم .. ورمقتنى بنظرة فاحصة .. وبادلتها نظرة مثلها .. وأنا أجد لها شبها بالرجل الجالس فى الداخل .. وخمنته شقيقها .. فقد كانت تشبهه إلى حد بعيد ..
وقلت لها بصوت قد أخذ بحلاوة تقاطيع وجهها رغم ما فيها من سمنة :
ـ أنا يا سيدتى .. يسرنى أن أراها ..
ـ بمكنك أن تذهب فى أى وقت .. وهذا هو العنوان ..
وكتبت بخط متأنق شيئا على ورقة صغيرة ..
وكانت الغرفة فى الدور الثالث فى بناية حديثة فى نهاية حى كليوباترا ولها شرفة صغيرة تطل على البحر .. وأمامها السلم المؤدى إلى الشاطئ وكانت مفروشة ببساطة .. فالشقة نفسها أنيقة وليس فى البيت أطفال .. فكانت فى واقع الحال وفق مناى .. ولذلك رأيت أن أنتقل من فندق هايد بارك إليها دون إبطاء وأن أحجزها مدة شهرين .. فأروح وأجئ من القاهرة إليها كلما شعرت بالحاجة إلى نسيم البحر .. وحملت حقيبتى .. وانتقلت إلى الغرفة فى مساء اليوم نفسه ..
ومن خلال حديث عابر عرفت مدام مارى أننى أشتغل فى مكتب المحاسبة وأعرف شئون الضرائب فسرت جدا .. ورجتنى أن أراجع دفاتر المحل .. فى الساعات التى أختارها فى الصباح أو بعد الظهر .. وأطلب الأجر الذى أريده..
ولم أكن أبغى أن اقوم بأى عمل وأنا أصطاف .. ولكننى وجدتها مسكينة .. وفى حالة ارتباك ودفاترها فى غاية السوء .. فأشفقت عليها وجلست إلى مكتب فى داخل المحل وأخذت أعمل كلما وجدت الفرصة مواتيه وساعة الفراغ ..
ومن اليوم الأول وأنا أراجع الدفاتر فى المتجر شعرت بإنتعاش وجو من الألفة جعلانى أواصل العمل بأمانة .. ولم أدر أكان ذلك لأنى أشغل غرفة صاحبة المتجر وأنام فى بيتها أو لأنى كنت أشم العطر فى كل ساعة ..
وكان فى المتجر ثلاث شابات عاملات فيهن مصرية واحدة .. وفراش عجوز .. وكان نشطا رغم شيخوخته ..
وكانت مدام مارى أبدا مرحة ومنطلقة على هواها .. ولاحظت دخول شاب أجنبى من الباب عدة مرات فى الساعة التى أكون موجودا فيها ..
وكانت المدام تناديه بكوستا .. وكان يعمل فى محل بن مجاور .. وظهر لى أنها متيمة به .. فكانت تجعله يقضى كل وقته معها ويتخلف عن عمله وتطلب من المحل قهوة وشايا وشيكولاته دون حاجة حقة .. لغرض أن تراه ويكون ملاصقا لها ..
وكانت تغازله بشكل مكشوف أمام عمال متجرها ..
وكانوا جميعا يتضايقون من كوستا .. ويكوهونه ..
وكان يتردد على المتجر شاب مصرى فى حوالى الثلاثين .. وكانت مدام مارى تسأله فى كل مرة :
ـ عملت أيه يا شيخ عبد الحفيظ .. ؟
ـ المسألة ماشيه .. بعد اسبوع حتعرفى النتيجة ..
وحدثتنى المدام بعد أن خرج .. أنه يسعى ليكسب الجنسية المصرية لزوجها ..
وسألتها :
ـ وما دخله وصفته فى الموضوع .. ؟
ـ إنه يعرف كل ذوى السلطان فى الإسكندرية ..
وخمنت أنه يستغلها .. ولم أشأ أن أعرفها الحقيقة ..
وفهمت من كلامها أنها أعطته مبلغا ليسهل لها الأمور ..
وكان الشيخ عبد الحفيظ أنيق الهندام مرحا خفيف الظل .. ومع أننى كنت على يقين أنه أستغل حاجة المدام وسذاجتها وأنه يضحك عليها ولا يقوم لها بأى عمل .. ولكننى كنت استلطفه وما من مرة دخل فيها المتجر إلا وحوله إلى عاصفة من المرح ..
وكان صغير الوجه مدور العمامة .. وكاكولته دائما مفتوحة وممتلئة بالهواء ..
ولم يكن يزاول أى عمل على أى وجه من الوجوه فى مدينة الإسكندرية ومع ذلك كان عامر الجيب .. ويصرف بسخاء .. وكل من فى المدينة يعرفه ..
فعذرت المدام وهى تسعى إليه بعد أن قدرت ما هو عليه من جاه وسلطان ..
وكان البرتو زوجها الرجل السمين البليد الطبع الذى يظل قابعا فى داخل المتجر ويرى زوجته تغازل الشباب وتضاحكهم أمام بصره ولا يحرك ساكنا ولا ينطق بحرف .. يحرك لواعجه إلى الفتاة العاملة على الخزينة ..
فكانت أجمل العاملات فى المتجر .. وظهر لى جليا أن الفتاة المسكينة واقعة تحت سيطرته تماما .. وعرفت أنها دفعت ثمن تشغيلها عنده .. وأنه كان يهددها بالطرد إن لم تستجب إلى رغبته .. فوقعت تحت سلطانه تماما ورضيت بالهوان.. وكانت تخضع لرغباته وتكرهه بكل قلبها ..
وكنت أقرأ فى وجهها العذاب والصراخ الأخرس كلما رأيته يقترب منها ليحادثها .. ولقد قر قرارى بعد شهر من عملى فى المتجر .. أن أخلص هذه الفتاة المسكينة ـ وكانت يتيمة وتعول أمها ـ من براثن هذا الوحش وأن اسعى إلى توظيفها فى متجر آخر وقد أكتسبت خبرة كعاملة للخزينة ..
وكانت مدام مارى تذهب إلى المتجر بإنتظام عدا أيام الآحاد ومساء السبت .. فإنها كانت تقضيهما فى البيت أو فى نزهة خلوية على البحر ..
وفى صباح يوم من أيام الآحاد رأيتها تسرف فى الزينة والتعطر .. ثم ظلت ساعة قلقة حتى جاءها كوستا .. وأخذها إلى شاطئ العجمى ..
ومر الأسبوع الأول من شهر سبتمبر .. وقد وجدت ما يربطنى بالإسكندرية إلى نهاية الشهر ..
وفى عصر يوم رأيت وأنا داخل البيت شخصا جديدا لم أره من قبل .. وكانت المدام جالسة قبالته على كرسى طويل وفى فمها السيجار ..
وكان شابا مصريا فى الخامسة والعشرين من عمره نحيلا أسمر براق العينين وكان يعمل فى الطقم الذى فى الصالة ويغير الكسوة..
وأدركت بعد فترة وجيزة أنه أخرس لما لم يرد تحيتى .. وجلست معهما لحظات أراقبه وهو يعمل ببراعة وحدثتنى المدام أنه اعتاد أن يقدم عليها مرة فى السنة .. يجدد الفراش والمراتب والمخدات ويغير الكسوة إن احتاجت إلى تغيير وأنه منذ خمس سنوات وهو يجئ إليها فى مثل هذا الشهر ولم يتاخر قط عن موعده ..
وظل فى البيت أسبوعا كاملا يعمل إلى ساعة متأخرة من الليل ..
وكان يذهب فى الليل إلى جهة « الحدرة » لينام ويجيىء مبكرا فى الصباح .. والواقع انه كان شعلة نشاط ليس لها ضريب .. واستطعت أن أتفاهم معه تماما بالإشارة ولاحظت أنه أخذ يعنى عناية خاصة بالغرفة التى أشغلها ويغير فراشها إلى شىء جديد ترتاح له العين ..
وكان مرحا وضاحك السن .. ولاحظت أن مدام مارى لا تحتشم فى ملابسها أمامه فقد وجدتها مرة لابسة قميص النوم على اللحم وجالسة بجانبه تراقبه وهو يعمل بأبرته .. وكان السكون يخيم على البيت ..
وكان هناك شىء قد أخذ ينمو على توالى الساعات والأيام والليالى فى عقل الأخرس وقلبه .. حتى أحب مدام مارى .. وتيم بها صبابة .. وكان يلاحظها بعينيه ويراقبها وهى رائحة غادية فى البيت وجالسة أمامه ومطلة من الشرفة على البحر .. وصانعة له فنجان الشاى .. ومقدمة له صحن الطعام ومحدثته بيدها .. ومحركة شفتيها وعينيها .. وكاشفة له عن صدرها ..
وكان ينظر إلى عينيها ويستغرق فى التأمل .. ويستغرق فى الدوامة التى تلفه ..
وكان يعيش فى شبه غيبوبة مطلقة وهى أمامه متنفسا أنفاسها وسامعا حركة أقدامها ..
وكان كلما بعد عنها يرجع إليها .. وفى قلبه شحنة من العواطف الدافئة..
وكانت بعد هذه السنوات الخمس من الحب الأخرس .. وقد ناهزت الخمسين وهو فى الخامسة والعشرين .. وزاد قلبه صبابة .. وجسمه اشتعالا ..
ولم تكن تحس به ولا تدرى من عواطف قلبه شيئا ..
والتقيت به ذات ليلة وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء .. نازلا على السلم فراعنى أن وجهه أصفر كوجوه الموتى .. ولما حييته رد بفتور وهو سارح البصر ..
ولما دخلت البيت سمعت صوت كوستا فى غرفة مدام مارى .. فأدركت سبب غضب الأخرس ..
ومر يومان وأقتربنا من نهاية الشهر .. وكان كل شىء عاديا فى البيت والمتجر .. وفى نصف الليل .. وكان السكون يخيم استيقظت على صرخة مفزعة .. ولما خرجت أهرول من غرفتى .. وجدت كوستا مضرجا بدمه فى الصالة .. والمدام مرتمية على جسمه وقد أصابتها مثل طعناته ..
وكان الأخرس .. على بعد متر واحد منهما .. ولا يزال ممسكا بالسكين . ووجهه الشاحب قد سكن تماما .. ولا يبدو عليه الخوف من شىء ..
================================
نشرت القصة بصحيفة المساء 12/12/1962 وأعبد نشرها فى مجموعة " عذراء ووحش " و بمجموعة " قصص من الإسكندية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق