الفرقة الأجنبية
قصة محمود البدوى
قبل سنوات كان الفلاحون فى الريف يحسون بالفراغ .. ولم تكن فى معظم عواصم المديريات دار واحدة للسينما .. ولاشىء للتسلية واللهو .. وكانت كل هذه الأشياء مركزة ومجمعة فى القاهرة .. فإذا حدث ورحلت فرقة تمثيلية صغيرة .. من قلب العاصمة وحطت رحالها فى مدينة .. المنيا .. أو سوهاج .. استقبلها الناس بحرارة لاحد لها .. حتى وإن كانت من أحط الفرق الجوالة على الاطلاق ..
وكان الخواجه " اسناسيو " يملك فندقا كبيرا فى مدينة أسيوط مجاورا للمحطة .. وفى هذه المنطقة تتجمع كل الفنادق والمقاهى التى فى المدينة .. ويشتد بينها الصراع ..
وكان الخواجه " اسناسيو " يعمل بعقل ذكى على راحة النزلاء ويجدد فى الفندق ويبتكر وسائل للتسلية ، فكان فندقه من أشهر وأحسن الفنادق فى المدينة ..
ويستيقظ نزلاء الفندق ذات صباح على صوت أنثى .. تتكلم باللهجة " المصرية " الناعمة وتضحك وفى يدها السيجارة .. ويرون القميص الذى يضم صدرها ينشق عن مثل المرمر .. والساق منثنية إلى جانب وعارية .. فيعرفون فى الحال أن فرقة أجنبية جاءت من القاهرة فى قطار الليل ..
وتكون الفرقة فى الغالب مغمورة وقضت فى العاصمة .. ستة أشهر على الأقل فى تعطل مر .. وليس من بين أفرادها اسم واحد رددته الصحف .. ومع هذا كله .. فبعد ساعة من وصولها يتدفق الناس على الفندق كالسيل ..
***
وفى الليل يبدأ عمـل الفرقة .. ويظل الرقص والموسيقى إلى الصباح .. وتأتى وفود العمد والأعيان من ملوى وديروط وكل المراكز البعيدة والقريبة .. ويصبح من المألوف جدا أن تقف عربة كبيرة على باب الفندق .. وترى على رفوفها غبار السفر .. وينزل منها أحد كبار الأعيان .. ويكون ضخما فى الغالب ويرتدى الكاكولة السمراء والقطنية البيضاء ذات الخطوط السوداء الرفيعة .. ويندفع توا إلى الداخل .. وهو يحيى الموجودين .. ثم ينزل بعده ستة من التوابع ، أربعة منهم مسلحون على الأقل .. ويجلس اثنان بالبنادق على الباب .. ويدخل الباقون ..
وتركز عيون الرجال جميعا .. على شىء واحد .. فى الفرقة .. شىء عجيب فى نظرهم .. راقصة .. تركية .. أو شركسية .. أو مصرية أو " منصورية " .. راقصة واحدة تنسيهم رائحة الدريس .. وعليـها يدور الصراع .. وتدور الكئوس .. وتفرغ زجاجات الشمبانيا .. وتحرق أوراق البنكنوت من كل الأحجام .. لإشعال سيجارة لها .. وتكون هى فى الغالب لاتدخن على الاطلاق ..
كانوا يبيعون القطن وينثرون ذهبه تحت أقدام الغوانى والراقصات ومن ورائهم يزحف بنك الأراضى والبنك العقارى ناشبا مخالبه ..
***
وفى خلال السنوات الأربع التى قضيتها فى فندق " ديانا " لم أشعر بأى ملل على الاطلاق ..
وكنت أول من ينهض من الفراش فى الصباح .. وأنزل إلى حديقة الفندق الصغيرة لأنظر وأشرب القهوة وأطالع الصحف التى وردت فى قطار الليل .. قبل أن أذهب إلى عملى فى تفتيش الرى ..
وذات صباح رأيت شابا نحيفا فى الثالثة والعشرين من عمره قد سبقنى إلى الحديقة .. وجلس يشرب الشاى ، وكانت تبدو عليه الوداعة ، ثم أقبلت فتاة من داخل الفندق وجلست بجانبه .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. ولاحظت أنها شديدة الخجل فبمجرد أن لمحتنى جالسا عن قرب تضرجت وجنتاها .. وكانت بيضاء طويلة وجسمها تبرز تقاطيعه فى تناسق مع الفستان الذى تلبسه .. ولمح الشاب " جارسون " اللوكاندة واقفا هناك على باب الحديقة ، فصاح فيه :
ـ من فضلك .. صحى الجماعة اللى فوق .. جعنا ..
ـ حاضر ..
وبعد نصف ساعة كانت الفرقة كلها تتناول الافطار بجوارى .. وكانوا يتحدثون عن رحلتهم .. فى بنى سويف والمنيا .. ويكثرون من الضحك ويتندرون على الفلاحين البسطاء ..
ولاحظت من وجوههم وهندامهم ، أنهم من فرق الدرجة الثالثة ولكنهم كانوا يضمون إلى مجموعتهم فتاتين من أجمل من رأيت من النساء .. وكان لإحداهن جسم شفاف كالبللور .. ينثنى ويلف كالخيرزان ..
***
وفى الساعة الحادية عشرة صباحا ، رأى الناس الموسيقى فى المدينة لأول مرة تعلن قدوم الفرقة .. وكان على رأسها " بلياتشو يلبس طرطورا " .. ويرقص ـ وهو سائر ـ حاجبيه .. ويكتفى بهذه الحركة عن عمل أى شىء آخر ..
وفى الليل بدأ الغناء ودار الرقص .. ومثلت رواية مضحكة اشترك فيها الجمهور .. وسمعت وأنا جالس فى بهو الفندق الغناء .. ورنين الصاجات .. ونقر الدف .. ولكننى لم أشاهد التمثيلية ، وحوالى الساعة الثانية صباحا انفض السامر .. والتف الأثرياء حول موائد الشراب .. ورأيت جماعة منهم هناك فى زاوية من القاعة .. ومعهم الفتاة التى كانت ترقص فى السامر .. وهى الفتاة التى شاهدتها فى الصباح مع الشاب فى الحديقة .. جلست فى أول الأمر منكمشة خجلى لاتفهم بعض كلماتهم الصعيدية ثم شربت معهم وأكلت وأخذت تضحك ، وجلسوا حولها حلقة يشعلون لها السجائر بأوراق البنكنوت .. وابتدءوا بالجنيه .. والعشرة .. وهم يضحكون .. ولكن اسماعيل " بك " كتم أنفاس الحاضرين فجأة فقد أخرج بهدوء من جيبه ورقة بمائة جنيه .. وأشعل بها السيجارة للفتاة ..
ورأيت دخان الورقة الأزرق .. يصعد إلى خياشيم الفتاة .. ثم رأيت الرماد يسقط على الأرض ..
وفى غمرة الانتصار ونشوته .. وقفت الفتاة منتصبة .. ورأيت عواطفها كلها تذوب .. كأنها تود أن تحتضن الرجل وتقبل وجناته ..
ثم غالبت نفسها وعادت إلى كرسيها وفمها يتموج راقصا بالضحك ..
***
ولما صعدت لأنام سمعت صوت اسماعيل " بك " ورائى .. فقد كان يقيم فى الطابق نفسه .. وفى غرفة مجاورة لغرفتى ..
ولما أدرت الأكرة وحركت الباب .. رأيت على الضوء الخافت ، ضوء سيجارة هناك فى الممر .. فتوقفت ومددت بصرى ، فرأيت الشاب الذى كان فى الصباح يشرب الشاى فى الحديقة .. جالسا هناك فى العتمة .. فى نهاية الممشى كأنه فى انتظار رفيقته ..
وفى عصر اليوم التالى شاهدت من نافذة غرفتى .. الموسيقى عائدة من جولتها فى المدينة .. وكف العزف .. ودخل البلياتشو من باب الفندق وهو ينزع القناع .. ورأيت وجه الشاب رفيق الفتاة الراقصة ..
وقبل الغروب نزل إلى الحديقة .. وكان قد اغتسل ولبس البدلة التى شاهدته فيها فى اليوم الأول .. وحيانى وجلس جانبا يطالع بعض الصحف ..
وسمعت الفتاة الراقصة تناديه من فوق .. وكان مستغرقا فى المطالعة فنبهته .. فرفع وجهه إليها ..
ـ رءوف .. اطلع ..
فهز رأسه .. وعادت تلح وتناديه ..
فطوى صحيفته .. وصعد إليها ..
وعاد بعد فترة وجيزة منفعلا وعلى وجهه الغضب وجلس ساهما على المقعد نفسه .. ونزلت الفتاة بعد قليل .. وكانت متأنقة .. ومتعطرة .. وترتدى رداء محتشما سابغا .. كأنها عذراء من الريف .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. وكأنها تناجيه .. حتى رأيت وجهه يعود إلى هدوئه .. وانفتأ الغضب ..
ثم نهضا .. واتخذا طريق النيل ..
***
وبعد آذان العشاء .. خرجت لأجول فى المدينة .. ولما رجعت إلى الفندق فى الساعة العاشرة مساء .. كان الرقص دائرا فى القاعة الداخلية .. وكان رءوف جالسا وحده .. تحت مدار السلم وقد مال رأسه على صدره .. وتنبه على وقع أقدامى .. فرفع رأسه .. وحدق في مليا ثم سدر ..
وجلست قريبا منه أتعشى وأنا أسمع صوت الأنغام .. ولما دعوته للطعام اعتذر وقال لى :
ـ اعتدت أن أتعشى مع مديحة بعد أن تنتهى من رقصتها وستأتى حالا ..
ولكنها لم تأت ..
وانقضت ساعتان هكذا وهى تضحك مع الرجال فى الداخل .. وهو يسمع ضحكها من مجلسه ويتلون وجهه بكل الألوان .. وقد عجبت من تصرفه وشذوذه ، يصاحب راقصة ثم يغار عليها .. وسمع ضحكة حادة منها فابيض وجهه .. وكان أمامه كوب من الماء .. فرفعه إلى فمه .. ويده ترتعش .. ولا تقوى على حمل الكوب .. ولاحظت .. أن حاجبيه يرقص رقصة واحدة شديدة فى كل خمس .. أو ست ثوان ..
وظل يدخن وينفض الرماد ثم نهض وصعد إلى فراشه ..
وسمعت صياحا .. عاليا .. يأتى من الداخل .. وأزحت الستارة ووقفت أشاهد مديحة وهى ترقص بالصاجات وينثنى جسمها كالثعبان وكانت وسط نفر قليل من الرجال لايزيد على خمسه .. ولم يكن من بينهم اسماعيل بك ..
وكان الدخان يملأ جو المكان .. ومديحة ترقص على نقر خفيف .. للدف .. ولايوجد عود ولاناى .. ودار جسمها دورات ثم أسبلت عينيها وهى تتأوه .. حتى اقتربت من " كنبة " .. فجلست تستريح وحبات العرق تتساقط كاللؤلؤ من جسمها العارى ..
ثم انتصبت وأمسكت بثوبها وهى تقول :
ـ كفاية .. بأه .. أحسن مسافرين بكره .. بدرى ..
وصعدت السلالم وحدها ..
ولما ذهبت لأنام بعد ذلك بنصف ساعة .. وجدت نور الغرفة التى اعتـادت أن تنام فيها مع الشاب مطفأ ولم أسمع صوتا هناك ..! وغفوت .. ثم تنبهت على صوت اسماعيل بك فى الغرفة المجاورة .. ولما رفعت رأسى عن الفراش وجدت فى غرفته ضوءا خفيفا .. وكان الصوت الذى سمعته قد انقطع ولكنه عاد أشبه بالهمس .. فتحركت من فراشى .. وفتحت الباب .. فوجدت بابه مواربا واستطعت أن أرى مديحة وهى ترقص عارية فى زاوية من الغرفة دون صوت وكأنها نائمة واسماعيل بك يتربع أمامها وفى يده الكأس وعيناه نصف مغمضتين والدخان يملأ جو الغرفة ..
وخشيت أن ترانى .. فعدت إلى غرفتى .. وتمددت على السرير ..
***
وفجأة دوت طلقات مزقت السـكون .. وجريت على صوت النار ، فوجدت مديحة ساقطة فى مكانها .. واسماعيل بك .. قد تدحرج بجوارها على الأرض ..
وكان رءوف على الباب .. وفى يده المسدس ..
ولما تناولته منه .. سلمه دون مقاومة ..
ـ لن يقتلونى هنا ويمزقونى .. بالسكاكين ..
ـ لا .. لن يمسك بك أحد حتى يأتى البوليس ..
وأغلقت الباب من الداخل ..
وأمسك بى وأخذ يهذى :
ـ حضرتك محام .. اعمل معروف .. خلصنى .. أنا مريض .. أنها زوجتى .. ولقد تزوجتها وهى راقصة لتكون لى وحدى .. ولم تكن هكذا كانت أشبه بالعذراء .. وقد عملت بلياتشو فى الفرقة .. لأكون معها فى الليل والنهار .. أنا مريض .. مريض بالأعصاب .. ولا أستطيع أن أقوم بأى عمل .. عندما كنت فى بطن أمى .. أتهم والدى فى جريمة قتل وسجن وكان الناس جميعا يعرفون أنه برىء .. ولكنه بقى فى السجن ثلاث سنوات ، ولما صدر الحكم أخيرا بالبراءة .. كان قد ضاع ، وتمزقت أعصاب أمى ، وقد ورثت منها هذه الأعصاب ، أنا غير مسئول ، أنا مريض .. ولن تتركنى .. وحدى .. أنت شاهد .. وأنا مريض .. مسكين ..
وأطرقت برأسى وأنا مدرك أننى لاأستطيع أن أفعل شيئا لهذا الشاب ورحت فى دوامة من الخواطر ، وفى خلال تلك الدوامة خيل إلىَّ أننى أسمع رنين الصاجات .. وأرى جسم مديحة .. الشفاف كالبللور وهو ينثنى ويدور .. برقصة بكر .. وخيل إلىَّ أنها ترقص لى وحدى رقصة جديدة .. لم ترقصها من قبل لإنسان ..
=================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 1/2/1957 وأعيد نشرها بجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " حارس البستان " وفى مجموعة " قصص من القرية" ـ مكتبة مصر ط 2006
=================================
قصة محمود البدوى
قبل سنوات كان الفلاحون فى الريف يحسون بالفراغ .. ولم تكن فى معظم عواصم المديريات دار واحدة للسينما .. ولاشىء للتسلية واللهو .. وكانت كل هذه الأشياء مركزة ومجمعة فى القاهرة .. فإذا حدث ورحلت فرقة تمثيلية صغيرة .. من قلب العاصمة وحطت رحالها فى مدينة .. المنيا .. أو سوهاج .. استقبلها الناس بحرارة لاحد لها .. حتى وإن كانت من أحط الفرق الجوالة على الاطلاق ..
وكان الخواجه " اسناسيو " يملك فندقا كبيرا فى مدينة أسيوط مجاورا للمحطة .. وفى هذه المنطقة تتجمع كل الفنادق والمقاهى التى فى المدينة .. ويشتد بينها الصراع ..
وكان الخواجه " اسناسيو " يعمل بعقل ذكى على راحة النزلاء ويجدد فى الفندق ويبتكر وسائل للتسلية ، فكان فندقه من أشهر وأحسن الفنادق فى المدينة ..
ويستيقظ نزلاء الفندق ذات صباح على صوت أنثى .. تتكلم باللهجة " المصرية " الناعمة وتضحك وفى يدها السيجارة .. ويرون القميص الذى يضم صدرها ينشق عن مثل المرمر .. والساق منثنية إلى جانب وعارية .. فيعرفون فى الحال أن فرقة أجنبية جاءت من القاهرة فى قطار الليل ..
وتكون الفرقة فى الغالب مغمورة وقضت فى العاصمة .. ستة أشهر على الأقل فى تعطل مر .. وليس من بين أفرادها اسم واحد رددته الصحف .. ومع هذا كله .. فبعد ساعة من وصولها يتدفق الناس على الفندق كالسيل ..
***
وفى الليل يبدأ عمـل الفرقة .. ويظل الرقص والموسيقى إلى الصباح .. وتأتى وفود العمد والأعيان من ملوى وديروط وكل المراكز البعيدة والقريبة .. ويصبح من المألوف جدا أن تقف عربة كبيرة على باب الفندق .. وترى على رفوفها غبار السفر .. وينزل منها أحد كبار الأعيان .. ويكون ضخما فى الغالب ويرتدى الكاكولة السمراء والقطنية البيضاء ذات الخطوط السوداء الرفيعة .. ويندفع توا إلى الداخل .. وهو يحيى الموجودين .. ثم ينزل بعده ستة من التوابع ، أربعة منهم مسلحون على الأقل .. ويجلس اثنان بالبنادق على الباب .. ويدخل الباقون ..
وتركز عيون الرجال جميعا .. على شىء واحد .. فى الفرقة .. شىء عجيب فى نظرهم .. راقصة .. تركية .. أو شركسية .. أو مصرية أو " منصورية " .. راقصة واحدة تنسيهم رائحة الدريس .. وعليـها يدور الصراع .. وتدور الكئوس .. وتفرغ زجاجات الشمبانيا .. وتحرق أوراق البنكنوت من كل الأحجام .. لإشعال سيجارة لها .. وتكون هى فى الغالب لاتدخن على الاطلاق ..
كانوا يبيعون القطن وينثرون ذهبه تحت أقدام الغوانى والراقصات ومن ورائهم يزحف بنك الأراضى والبنك العقارى ناشبا مخالبه ..
***
وفى خلال السنوات الأربع التى قضيتها فى فندق " ديانا " لم أشعر بأى ملل على الاطلاق ..
وكنت أول من ينهض من الفراش فى الصباح .. وأنزل إلى حديقة الفندق الصغيرة لأنظر وأشرب القهوة وأطالع الصحف التى وردت فى قطار الليل .. قبل أن أذهب إلى عملى فى تفتيش الرى ..
وذات صباح رأيت شابا نحيفا فى الثالثة والعشرين من عمره قد سبقنى إلى الحديقة .. وجلس يشرب الشاى ، وكانت تبدو عليه الوداعة ، ثم أقبلت فتاة من داخل الفندق وجلست بجانبه .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. ولاحظت أنها شديدة الخجل فبمجرد أن لمحتنى جالسا عن قرب تضرجت وجنتاها .. وكانت بيضاء طويلة وجسمها تبرز تقاطيعه فى تناسق مع الفستان الذى تلبسه .. ولمح الشاب " جارسون " اللوكاندة واقفا هناك على باب الحديقة ، فصاح فيه :
ـ من فضلك .. صحى الجماعة اللى فوق .. جعنا ..
ـ حاضر ..
وبعد نصف ساعة كانت الفرقة كلها تتناول الافطار بجوارى .. وكانوا يتحدثون عن رحلتهم .. فى بنى سويف والمنيا .. ويكثرون من الضحك ويتندرون على الفلاحين البسطاء ..
ولاحظت من وجوههم وهندامهم ، أنهم من فرق الدرجة الثالثة ولكنهم كانوا يضمون إلى مجموعتهم فتاتين من أجمل من رأيت من النساء .. وكان لإحداهن جسم شفاف كالبللور .. ينثنى ويلف كالخيرزان ..
***
وفى الساعة الحادية عشرة صباحا ، رأى الناس الموسيقى فى المدينة لأول مرة تعلن قدوم الفرقة .. وكان على رأسها " بلياتشو يلبس طرطورا " .. ويرقص ـ وهو سائر ـ حاجبيه .. ويكتفى بهذه الحركة عن عمل أى شىء آخر ..
وفى الليل بدأ الغناء ودار الرقص .. ومثلت رواية مضحكة اشترك فيها الجمهور .. وسمعت وأنا جالس فى بهو الفندق الغناء .. ورنين الصاجات .. ونقر الدف .. ولكننى لم أشاهد التمثيلية ، وحوالى الساعة الثانية صباحا انفض السامر .. والتف الأثرياء حول موائد الشراب .. ورأيت جماعة منهم هناك فى زاوية من القاعة .. ومعهم الفتاة التى كانت ترقص فى السامر .. وهى الفتاة التى شاهدتها فى الصباح مع الشاب فى الحديقة .. جلست فى أول الأمر منكمشة خجلى لاتفهم بعض كلماتهم الصعيدية ثم شربت معهم وأكلت وأخذت تضحك ، وجلسوا حولها حلقة يشعلون لها السجائر بأوراق البنكنوت .. وابتدءوا بالجنيه .. والعشرة .. وهم يضحكون .. ولكن اسماعيل " بك " كتم أنفاس الحاضرين فجأة فقد أخرج بهدوء من جيبه ورقة بمائة جنيه .. وأشعل بها السيجارة للفتاة ..
ورأيت دخان الورقة الأزرق .. يصعد إلى خياشيم الفتاة .. ثم رأيت الرماد يسقط على الأرض ..
وفى غمرة الانتصار ونشوته .. وقفت الفتاة منتصبة .. ورأيت عواطفها كلها تذوب .. كأنها تود أن تحتضن الرجل وتقبل وجناته ..
ثم غالبت نفسها وعادت إلى كرسيها وفمها يتموج راقصا بالضحك ..
***
ولما صعدت لأنام سمعت صوت اسماعيل " بك " ورائى .. فقد كان يقيم فى الطابق نفسه .. وفى غرفة مجاورة لغرفتى ..
ولما أدرت الأكرة وحركت الباب .. رأيت على الضوء الخافت ، ضوء سيجارة هناك فى الممر .. فتوقفت ومددت بصرى ، فرأيت الشاب الذى كان فى الصباح يشرب الشاى فى الحديقة .. جالسا هناك فى العتمة .. فى نهاية الممشى كأنه فى انتظار رفيقته ..
وفى عصر اليوم التالى شاهدت من نافذة غرفتى .. الموسيقى عائدة من جولتها فى المدينة .. وكف العزف .. ودخل البلياتشو من باب الفندق وهو ينزع القناع .. ورأيت وجه الشاب رفيق الفتاة الراقصة ..
وقبل الغروب نزل إلى الحديقة .. وكان قد اغتسل ولبس البدلة التى شاهدته فيها فى اليوم الأول .. وحيانى وجلس جانبا يطالع بعض الصحف ..
وسمعت الفتاة الراقصة تناديه من فوق .. وكان مستغرقا فى المطالعة فنبهته .. فرفع وجهه إليها ..
ـ رءوف .. اطلع ..
فهز رأسه .. وعادت تلح وتناديه ..
فطوى صحيفته .. وصعد إليها ..
وعاد بعد فترة وجيزة منفعلا وعلى وجهه الغضب وجلس ساهما على المقعد نفسه .. ونزلت الفتاة بعد قليل .. وكانت متأنقة .. ومتعطرة .. وترتدى رداء محتشما سابغا .. كأنها عذراء من الريف .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. وكأنها تناجيه .. حتى رأيت وجهه يعود إلى هدوئه .. وانفتأ الغضب ..
ثم نهضا .. واتخذا طريق النيل ..
***
وبعد آذان العشاء .. خرجت لأجول فى المدينة .. ولما رجعت إلى الفندق فى الساعة العاشرة مساء .. كان الرقص دائرا فى القاعة الداخلية .. وكان رءوف جالسا وحده .. تحت مدار السلم وقد مال رأسه على صدره .. وتنبه على وقع أقدامى .. فرفع رأسه .. وحدق في مليا ثم سدر ..
وجلست قريبا منه أتعشى وأنا أسمع صوت الأنغام .. ولما دعوته للطعام اعتذر وقال لى :
ـ اعتدت أن أتعشى مع مديحة بعد أن تنتهى من رقصتها وستأتى حالا ..
ولكنها لم تأت ..
وانقضت ساعتان هكذا وهى تضحك مع الرجال فى الداخل .. وهو يسمع ضحكها من مجلسه ويتلون وجهه بكل الألوان .. وقد عجبت من تصرفه وشذوذه ، يصاحب راقصة ثم يغار عليها .. وسمع ضحكة حادة منها فابيض وجهه .. وكان أمامه كوب من الماء .. فرفعه إلى فمه .. ويده ترتعش .. ولا تقوى على حمل الكوب .. ولاحظت .. أن حاجبيه يرقص رقصة واحدة شديدة فى كل خمس .. أو ست ثوان ..
وظل يدخن وينفض الرماد ثم نهض وصعد إلى فراشه ..
وسمعت صياحا .. عاليا .. يأتى من الداخل .. وأزحت الستارة ووقفت أشاهد مديحة وهى ترقص بالصاجات وينثنى جسمها كالثعبان وكانت وسط نفر قليل من الرجال لايزيد على خمسه .. ولم يكن من بينهم اسماعيل بك ..
وكان الدخان يملأ جو المكان .. ومديحة ترقص على نقر خفيف .. للدف .. ولايوجد عود ولاناى .. ودار جسمها دورات ثم أسبلت عينيها وهى تتأوه .. حتى اقتربت من " كنبة " .. فجلست تستريح وحبات العرق تتساقط كاللؤلؤ من جسمها العارى ..
ثم انتصبت وأمسكت بثوبها وهى تقول :
ـ كفاية .. بأه .. أحسن مسافرين بكره .. بدرى ..
وصعدت السلالم وحدها ..
ولما ذهبت لأنام بعد ذلك بنصف ساعة .. وجدت نور الغرفة التى اعتـادت أن تنام فيها مع الشاب مطفأ ولم أسمع صوتا هناك ..! وغفوت .. ثم تنبهت على صوت اسماعيل بك فى الغرفة المجاورة .. ولما رفعت رأسى عن الفراش وجدت فى غرفته ضوءا خفيفا .. وكان الصوت الذى سمعته قد انقطع ولكنه عاد أشبه بالهمس .. فتحركت من فراشى .. وفتحت الباب .. فوجدت بابه مواربا واستطعت أن أرى مديحة وهى ترقص عارية فى زاوية من الغرفة دون صوت وكأنها نائمة واسماعيل بك يتربع أمامها وفى يده الكأس وعيناه نصف مغمضتين والدخان يملأ جو الغرفة ..
وخشيت أن ترانى .. فعدت إلى غرفتى .. وتمددت على السرير ..
***
وفجأة دوت طلقات مزقت السـكون .. وجريت على صوت النار ، فوجدت مديحة ساقطة فى مكانها .. واسماعيل بك .. قد تدحرج بجوارها على الأرض ..
وكان رءوف على الباب .. وفى يده المسدس ..
ولما تناولته منه .. سلمه دون مقاومة ..
ـ لن يقتلونى هنا ويمزقونى .. بالسكاكين ..
ـ لا .. لن يمسك بك أحد حتى يأتى البوليس ..
وأغلقت الباب من الداخل ..
وأمسك بى وأخذ يهذى :
ـ حضرتك محام .. اعمل معروف .. خلصنى .. أنا مريض .. أنها زوجتى .. ولقد تزوجتها وهى راقصة لتكون لى وحدى .. ولم تكن هكذا كانت أشبه بالعذراء .. وقد عملت بلياتشو فى الفرقة .. لأكون معها فى الليل والنهار .. أنا مريض .. مريض بالأعصاب .. ولا أستطيع أن أقوم بأى عمل .. عندما كنت فى بطن أمى .. أتهم والدى فى جريمة قتل وسجن وكان الناس جميعا يعرفون أنه برىء .. ولكنه بقى فى السجن ثلاث سنوات ، ولما صدر الحكم أخيرا بالبراءة .. كان قد ضاع ، وتمزقت أعصاب أمى ، وقد ورثت منها هذه الأعصاب ، أنا غير مسئول ، أنا مريض .. ولن تتركنى .. وحدى .. أنت شاهد .. وأنا مريض .. مسكين ..
وأطرقت برأسى وأنا مدرك أننى لاأستطيع أن أفعل شيئا لهذا الشاب ورحت فى دوامة من الخواطر ، وفى خلال تلك الدوامة خيل إلىَّ أننى أسمع رنين الصاجات .. وأرى جسم مديحة .. الشفاف كالبللور وهو ينثنى ويدور .. برقصة بكر .. وخيل إلىَّ أنها ترقص لى وحدى رقصة جديدة .. لم ترقصها من قبل لإنسان ..
=================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 1/2/1957 وأعيد نشرها بجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " حارس البستان " وفى مجموعة " قصص من القرية" ـ مكتبة مصر ط 2006
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق