الخنزير
قصة محمود البدوى
اشتغلت فى غمرة الحرب العالمية الثانية فى شركة البحار السبعة للتأمين البحرى ، وهى شركة كبيرة لها فروع فى معظم الموانىء المصرية ، وكان مكتب الشركة فى بور توفيق .. وتشغل الشركة خمس أو ست حجرات فى طابق أرضى على شاطىء البحر .. وكانت غرفتنا تطل على القنال ..
وكنت فى حجرة صغيرة مع أربعة آخرين فيهم مصرى آخر وفتاتان أجنبيتان .. وكان العمل فى الشركة يسير منتظما وسريعا .. ولكن الإيراد قل بسبب الحرب ، والمراكب تحولت عن القناة ودارت حول رأس الرجاء الصالح .. ومع ذلك كنا نعمل فى الصباح وبعد الظهر ..
وكان رؤوف " بك " مدير الشركة فى السويس رجلا ضخم الجسم ، مدور الوجه ، أصلع الرأس ، حاد النظرات ، صارما ، عابس الوجه أبدا من أصل تركى ، وكان يكره المصريين ويحتقرهم ..
وكان يقرأ فى الصحف ويسمع الراديو ، وهو يذيع غرق البواخر فيثور .. ويصب نقمته علينا .. وكان يجىء فى الساعة التاسعة صباحا من كل يوم ومعه كلب أبيض .. وكان منزله قريبا من الشركة ، فكان يقطع هذه المسافة مشيا على الأقدام .. وكان الكلب يظل معه فى المكتب ساعة أو أكثر .. ثم يدخل علينا به .. ويشير على واحد منا بأن يعيده إلى البيت ..
وكان فى المكتب فراشون وسعاة .. ولكنه كان يتعمد أن يكلفنا بهذا العمل ليذلنا . وكان يدخل علينا المكتب مرة أو مرتين فى اليوم ، ولم نكن نشعر به اطلاقا وهو داخل ، كان كأنه يزحف بجسمه الضخم على بطنه ، ولم يكن يسمع لصوت أقدامه حس ..
وكان مع جهله وغبائه ، يسمعنا كلاما موجعا .. ويحب أن يرى كل واحد مكبا على عمله .. وكان ينتقد كل ما نقوم به من عمل ، وكنا نكرهه ونود أن تبتلعه الأرض ، كما كنا نكره الكلب الذى يذلنا به أكثر من صاحبه ، وكان يسكن فى فيلا أنيقة من طابقين .. ومتزوجا من صبية أجنبية لا تتجاوز الثلاثين ربيعا ، وكان لمنزلهما حديقة أنيقة تحيط بها مناظر غاية فى الروعة ..
كان المدير متأنقا فى ملبسه وله كرش ضخم يزحف به إلى الأمام .. يجيد كل اللغات ويذهب إلى نادى الجعران كل ليلة .. وهو ناد أرستقراطى .. يذهب إليه ليرقص ويلعب القمار ويتظاهر هناك وسط الفرنجة بوجاهته وغطرسته ..
وكانت زوجته تذهب معه أحيـانا ، ولكن غالبا ما كانت تبقى فى فيلتها الأنيقة ، أو تخرج بزورقها الصغير فى عرض البحر للنزهة . وكانت " اسبور " أنيقة حالمة ، وكانا يعيشان معا شبه منفصلين ، فقد كان لكل منهما هوايته فى الحياة ..
هو مقامر فظ الطباع ، يحب المجتمعات .. وهى منفردة وادعة ، تحب الطبيعة ومجاليها الرائعة .. تجلس فى النهار فى حديقة منزلها تطالع أو ترسم بعض اللوحات الفنية ، وفى الغروب تخرج بزورقها فى عرض البحر ..
كنت إذا رأيتها فى وسط الزورق وهى واقفة عند الدفة ، وقد حلت جدائل شعرها ، واستقبلت الشمس الغاربة بوجهها ، تحسبها حورية خارجة من البحر ..
***
وكنا نمضى الأيام فى حياة رتيبة فى بور توفيق والسويس .. والحرب دائرة على أشدها .. وهزائم الإنجليز تترى فى كل مكان ، وجنودهم فى الموانىء المصرية مذعورين كالجرزان .. يصخبون ويعربدون .. وكلما توالت هزائمهم اشتد ضجيجهم وصخبهم وهم يسكرون ويمرحون فى المدينة ..
وكانت الفتاتان اللتان تعملان معنا فى المكتب قد انطلقتا مع هؤلاء الجنود وصحبت كل واحدة فى نزهتهـا أختهـا الصغرى والكبرى ..
وأحيانا أمها ..! كان كل شىء يدور فى طاحونة مادية ..
كان الناس يعيشون بحسهم ويلمسون أوراق البنكنوت بأيديهم ، وهم يحسبونها كل شىء فى الحياة ..
***
وكنت أذهب إلى منزل مدير الشركة وأحمل إليه بعض الأوراق ، أو أحادثه فى بعض الشئون ، وكان دائما يحب أن يظهرنا أمام زوجته فى مظهر العبيد .. وكنا نتحمل هذه الاهانة بغيظ مستعر ..
وكنت أراها صباح كل يوم وأنا ذاهب إلى المكتب جالسة فى حديقة منزلها فأحييها ، وكانت ترد تحيتى باسمة ..
ومضت الأيام رتيبة مملة ، وكنت أسكن فى شقة صغيرة فى بور توفيق ، وندر ما أذهب إلى السويس ، وكان الظلام يلف المدينة فى وشاحه الأسود فى الليل ، والهدوء المطلق المخيم عليها فى النهار ، وكنت أقضى النهار فى المكتب ، وبعد الغروب أتمشى فى المدينة ثم أذهب لأنام .. وكنت أمشى دائما على شط القنال حالما مفكرا ..
كان كل شىء يدل على أن هذه الحرب ستطول ، وأن هذه المجزرة البشرية ستنتهى على أبشع صورة .. وكان وجود هؤلاء الذين يسمون أنفسهم جنود الحلفاء فى هذه المدينة ، وفى غيرها من المدن المصرية ، يحملنى على الغيـظ المسـتعر .. ومنظرهم يبعث القرف إلى نفسى ..
وكنت أتمنى هزيمتهم على أبشع صورة .. انهم يمثلون الظلم والاستعباد والفساد بكل صوره البشعة ..
وكنت أتمشى ذات ليلة على شط القنال كعادتى عندما لمحت زوجة مدير الشركة واقفة بزورقها على بعد قليل منى ، وكنت أود لو أغير طريقى ، ولكنها رأتنى وهتفت بى فى صوت حلو .. فاقتربت .. وكانت واقفة فى وسط الزورق وقد ألقت مرساه إلى الشاطىء .. وكانت ترتدى بنطلونا أزرق وقميصا قصير الأكمام .. ووجهها يلمع وعليه آثار عرق كأنها كانت تعانى جهدا مضنيا ..
وقالت وعيناها مصوبتان إلىَّ :
ـ مراد أفندى ..
ـ نعم ..
ـ اللنش تعطل ..
واقتربت من الزورق صامتا دون أن ألقى نظرة عليها ، وحاولت إدارة الماكينة فلم أستطع ، فقلت لها وأنا يائس :
ـ خليه إلى الصباح ..
وخرجت من الزورق ولامست أقدامها الأرض المعشوشبة .. وتسلقت المنحدر ، واستوت على الطريق ..
وعلى رأس المنحدر سمعتها تنادينى ، فتقدمت نحوها ..
ـ تعال روح معايا .. أنا خايفة ..
ـ خايفة ..؟
ـ أجل .. من الظلام .. ومن الجنود السكارى .. أرجوك ..
ومشيت معها .. وكان الظلام رهيبا حقا .. ولم يكن هناك شىء يسمع والساعة تقترب من الثامنة مساء .. والطريق الطويل الذى يطوق المدينة قاتما موحشا ، وهى تسير بجانبى صامتة .. وترمينى بين فينة وأخـرى بنظرات جانبية طويلة .. وكنت أرى عينيها تلتمعان فى الظلام ، ووجهها يلمع بوضوح فى الليل الساكن ..
كانت طويلة القامة رشيقة الحركة .. وكان جسمها لينا مرنا ، وحركتها رشيقة ، وبدا لى وأنا سائر بجوارها أن أرى أينا أطول فاقتربت منها حتى كاد يلامس كتفى كتفها .. وقبل منزلها بشارعين .. توقفت وهممت بالانصراف ..
قالت :
ـ تعال لغاية البيت أرجوك ..
وألحت .. فرفضت ..
ـ أنت خايف منه ..؟
ـ طبعا ..
ـ هل يخيفك هذا الثور ..؟ انه لاشىء فى نظرى ..!
ـ ولكنه فى نظرنا كل شىء ، انها لقمة العيش ، وأنت لاتعرفين الفقر أو الجوع ..
ومدت يدها .. وقالت بصوت حلو :
ـ شكرا ..
وسلمت عليها وانصرفت وابتلعنى الظلام ..
***
وكنت كلمـا ذهبت إلى منزلها لبعض العمل استبقتنى لتتحدث معى .. وكانت تكلفنى ببعض أعمال صغيرة ، وتسر جدا عندما أقوم بها على وجه سريع ..
ومضت الأيام ..
وذات مساء .. رأيتها خارجة بالزورق فى عرض البحر ، ولما شاهدتنى من بعيد .. أشارت إلىَّ بأن أقترب .. ولما اقتربت منها ألقت بالزورق إلى المرساة ودعتنى إلى الركوب ..
فرفضت وألحت ..
فقلت لها :
ـ ان هذا جنون ..! قد يشاهدك أحد ..
ـ سأسير بالزورق إلى نهاية المدينة من الشمال وانتظرك هناك ..
ولم تسمع جوابى وسارت .. وتبعتها وأنا مدفوع بقوة لاقبل لى على ردها .. ووجدتها راسية هناك فى جوف الخليج ، فركبت بجوارها وسارت فى عرض البحر .. وبعد قليل أوقفت المحرك ، وقالت وهى تنظر إلىَّ :
ـ دعنا نتمتع بجمال الطبيعة المحيط بنا ..
ولم يكن هناك جمال حولى سواها .. وأشعلت سيجارة وزمتها بين شفتيها الحالمتين ، وكانت تعرف أننى لا أدخن ، ومع ذلك قدمت لى سيجارة فأشعلتها ، وأنا أنظر خلال الدخان الأزرق إلى أعماق عينيها وأغوار نفسها ..
وسألتنى وقد ألقت بنظرها بعيدا ..
ـ أتحب الحياة ..؟
ـ أجل ..
ونظرت فجأة إلى شىء أسود يطفو على الماء ..
ـ أنظر ..
ونظرت إلىَّ فى خوف ..
ـ لا تخافى .. انه حيوان القرش ..
ولكنها ارتعدت وارتمت على صدرى والتصقت بى .. وبعد برهة وجدت شفتيها تحت شفتى ، فضغطت عليهما فى عنف وغبنا عن الوجود ..
***
ومضى اسبوع كامل لم أرها فيه ، وانشغلت بالحياة وما يجرى فيها فنسيتها ..
وذات غروب كنت نازلا من سلم بيتى الصغير فشاهدتها مارة فى الشارع .. وانتظرت حتى اقتربت منها وسألتنى :
ـ أهذا بيتك ..؟
ـ نعم ..
ـ ما أجمله ..؟
ـ ..........
ـ أتقيم وحدك ..؟
ـ أجل ..
ـ غدا سأخرج بالزورق .. وانتظرك هناك ..
ـ أرجوك أن تعفينى من هذا أرجوك ..
ـ ألا تزال تخاف من هذا الخنزير ..
ـ طبعا ..
ـ انه ليس برجل على الاطلاق ، سأنتظرك غدا عند الخليج .. بعد الغروب ..
***
وترددت فى الذهاب ، ثم ذهبت أخيرا وكانت هناك .. وكانت لى بكل جسمها ونفسها ..
ولمحت وأنا خارج معها من الزورق شخصا يرقبنا عن بعد ثم يختفى فى الظلام ، وكان فى شكله ومشيته بعينه زوجها ، ولكننى كتمت ما رأيت عنها .. واضطربت ضربات قلبى ..
وودعتها وفى رأسى خواطر مروعة ..
***
وذهبت إلى المكتب فى الصباح وأنا أحاول أن أبدو طبيعيا ، واجتهدت أن أقرأ شيئا على ملامح الرجل يدل على أنه كان يراقبنا ليلة أمس .. ولكننى وجدته على حاله ، فأيقنت أننى أخطأت النظر واطمأن قلبى ..
***
وأخذت تجىء بعد ذلك كلما سنحت لها الفرصة ، وكنت أحذرها من مغبة هذا ، ولكنها كانت لاتسمع كلامى ..
وسألتنى مرة :
ـ أتحبنى يا مراد .. أم تنتقم منه فى شخصى ..؟
ـ أقول لك الحق .. أننى لا أعرف ..
ـ وظهر على وجهها الغضب ، وارتدت وشاحها .. وخرجـت معها إلى الباب الخارجى .. وفوجئنا ونحن نجتاز العتبة بزوجها فى أسفل الدرج ..
ونظر إلىَّ باسما ثم أخرج غدارته فى لمح البصر وصوبها .. وارتمت هى فى تلك اللحظة على صدرى ، فأصابتها الرصاصة وهوت إلى الأرض ، وأخرجت مسدسى وأطلقته سريعا وأطلق هو .. ورأيته وهو ساقط ..
وسقطت أنا على حافة السور مثخنا بالجراح ..
====================================
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " عذارى الليل " سنة 1956وفى مجموعة " قصص من القنال " ـ مكتبة مصر
====================================
قصة محمود البدوى
اشتغلت فى غمرة الحرب العالمية الثانية فى شركة البحار السبعة للتأمين البحرى ، وهى شركة كبيرة لها فروع فى معظم الموانىء المصرية ، وكان مكتب الشركة فى بور توفيق .. وتشغل الشركة خمس أو ست حجرات فى طابق أرضى على شاطىء البحر .. وكانت غرفتنا تطل على القنال ..
وكنت فى حجرة صغيرة مع أربعة آخرين فيهم مصرى آخر وفتاتان أجنبيتان .. وكان العمل فى الشركة يسير منتظما وسريعا .. ولكن الإيراد قل بسبب الحرب ، والمراكب تحولت عن القناة ودارت حول رأس الرجاء الصالح .. ومع ذلك كنا نعمل فى الصباح وبعد الظهر ..
وكان رؤوف " بك " مدير الشركة فى السويس رجلا ضخم الجسم ، مدور الوجه ، أصلع الرأس ، حاد النظرات ، صارما ، عابس الوجه أبدا من أصل تركى ، وكان يكره المصريين ويحتقرهم ..
وكان يقرأ فى الصحف ويسمع الراديو ، وهو يذيع غرق البواخر فيثور .. ويصب نقمته علينا .. وكان يجىء فى الساعة التاسعة صباحا من كل يوم ومعه كلب أبيض .. وكان منزله قريبا من الشركة ، فكان يقطع هذه المسافة مشيا على الأقدام .. وكان الكلب يظل معه فى المكتب ساعة أو أكثر .. ثم يدخل علينا به .. ويشير على واحد منا بأن يعيده إلى البيت ..
وكان فى المكتب فراشون وسعاة .. ولكنه كان يتعمد أن يكلفنا بهذا العمل ليذلنا . وكان يدخل علينا المكتب مرة أو مرتين فى اليوم ، ولم نكن نشعر به اطلاقا وهو داخل ، كان كأنه يزحف بجسمه الضخم على بطنه ، ولم يكن يسمع لصوت أقدامه حس ..
وكان مع جهله وغبائه ، يسمعنا كلاما موجعا .. ويحب أن يرى كل واحد مكبا على عمله .. وكان ينتقد كل ما نقوم به من عمل ، وكنا نكرهه ونود أن تبتلعه الأرض ، كما كنا نكره الكلب الذى يذلنا به أكثر من صاحبه ، وكان يسكن فى فيلا أنيقة من طابقين .. ومتزوجا من صبية أجنبية لا تتجاوز الثلاثين ربيعا ، وكان لمنزلهما حديقة أنيقة تحيط بها مناظر غاية فى الروعة ..
كان المدير متأنقا فى ملبسه وله كرش ضخم يزحف به إلى الأمام .. يجيد كل اللغات ويذهب إلى نادى الجعران كل ليلة .. وهو ناد أرستقراطى .. يذهب إليه ليرقص ويلعب القمار ويتظاهر هناك وسط الفرنجة بوجاهته وغطرسته ..
وكانت زوجته تذهب معه أحيـانا ، ولكن غالبا ما كانت تبقى فى فيلتها الأنيقة ، أو تخرج بزورقها الصغير فى عرض البحر للنزهة . وكانت " اسبور " أنيقة حالمة ، وكانا يعيشان معا شبه منفصلين ، فقد كان لكل منهما هوايته فى الحياة ..
هو مقامر فظ الطباع ، يحب المجتمعات .. وهى منفردة وادعة ، تحب الطبيعة ومجاليها الرائعة .. تجلس فى النهار فى حديقة منزلها تطالع أو ترسم بعض اللوحات الفنية ، وفى الغروب تخرج بزورقها فى عرض البحر ..
كنت إذا رأيتها فى وسط الزورق وهى واقفة عند الدفة ، وقد حلت جدائل شعرها ، واستقبلت الشمس الغاربة بوجهها ، تحسبها حورية خارجة من البحر ..
***
وكنا نمضى الأيام فى حياة رتيبة فى بور توفيق والسويس .. والحرب دائرة على أشدها .. وهزائم الإنجليز تترى فى كل مكان ، وجنودهم فى الموانىء المصرية مذعورين كالجرزان .. يصخبون ويعربدون .. وكلما توالت هزائمهم اشتد ضجيجهم وصخبهم وهم يسكرون ويمرحون فى المدينة ..
وكانت الفتاتان اللتان تعملان معنا فى المكتب قد انطلقتا مع هؤلاء الجنود وصحبت كل واحدة فى نزهتهـا أختهـا الصغرى والكبرى ..
وأحيانا أمها ..! كان كل شىء يدور فى طاحونة مادية ..
كان الناس يعيشون بحسهم ويلمسون أوراق البنكنوت بأيديهم ، وهم يحسبونها كل شىء فى الحياة ..
***
وكنت أذهب إلى منزل مدير الشركة وأحمل إليه بعض الأوراق ، أو أحادثه فى بعض الشئون ، وكان دائما يحب أن يظهرنا أمام زوجته فى مظهر العبيد .. وكنا نتحمل هذه الاهانة بغيظ مستعر ..
وكنت أراها صباح كل يوم وأنا ذاهب إلى المكتب جالسة فى حديقة منزلها فأحييها ، وكانت ترد تحيتى باسمة ..
ومضت الأيام رتيبة مملة ، وكنت أسكن فى شقة صغيرة فى بور توفيق ، وندر ما أذهب إلى السويس ، وكان الظلام يلف المدينة فى وشاحه الأسود فى الليل ، والهدوء المطلق المخيم عليها فى النهار ، وكنت أقضى النهار فى المكتب ، وبعد الغروب أتمشى فى المدينة ثم أذهب لأنام .. وكنت أمشى دائما على شط القنال حالما مفكرا ..
كان كل شىء يدل على أن هذه الحرب ستطول ، وأن هذه المجزرة البشرية ستنتهى على أبشع صورة .. وكان وجود هؤلاء الذين يسمون أنفسهم جنود الحلفاء فى هذه المدينة ، وفى غيرها من المدن المصرية ، يحملنى على الغيـظ المسـتعر .. ومنظرهم يبعث القرف إلى نفسى ..
وكنت أتمنى هزيمتهم على أبشع صورة .. انهم يمثلون الظلم والاستعباد والفساد بكل صوره البشعة ..
وكنت أتمشى ذات ليلة على شط القنال كعادتى عندما لمحت زوجة مدير الشركة واقفة بزورقها على بعد قليل منى ، وكنت أود لو أغير طريقى ، ولكنها رأتنى وهتفت بى فى صوت حلو .. فاقتربت .. وكانت واقفة فى وسط الزورق وقد ألقت مرساه إلى الشاطىء .. وكانت ترتدى بنطلونا أزرق وقميصا قصير الأكمام .. ووجهها يلمع وعليه آثار عرق كأنها كانت تعانى جهدا مضنيا ..
وقالت وعيناها مصوبتان إلىَّ :
ـ مراد أفندى ..
ـ نعم ..
ـ اللنش تعطل ..
واقتربت من الزورق صامتا دون أن ألقى نظرة عليها ، وحاولت إدارة الماكينة فلم أستطع ، فقلت لها وأنا يائس :
ـ خليه إلى الصباح ..
وخرجت من الزورق ولامست أقدامها الأرض المعشوشبة .. وتسلقت المنحدر ، واستوت على الطريق ..
وعلى رأس المنحدر سمعتها تنادينى ، فتقدمت نحوها ..
ـ تعال روح معايا .. أنا خايفة ..
ـ خايفة ..؟
ـ أجل .. من الظلام .. ومن الجنود السكارى .. أرجوك ..
ومشيت معها .. وكان الظلام رهيبا حقا .. ولم يكن هناك شىء يسمع والساعة تقترب من الثامنة مساء .. والطريق الطويل الذى يطوق المدينة قاتما موحشا ، وهى تسير بجانبى صامتة .. وترمينى بين فينة وأخـرى بنظرات جانبية طويلة .. وكنت أرى عينيها تلتمعان فى الظلام ، ووجهها يلمع بوضوح فى الليل الساكن ..
كانت طويلة القامة رشيقة الحركة .. وكان جسمها لينا مرنا ، وحركتها رشيقة ، وبدا لى وأنا سائر بجوارها أن أرى أينا أطول فاقتربت منها حتى كاد يلامس كتفى كتفها .. وقبل منزلها بشارعين .. توقفت وهممت بالانصراف ..
قالت :
ـ تعال لغاية البيت أرجوك ..
وألحت .. فرفضت ..
ـ أنت خايف منه ..؟
ـ طبعا ..
ـ هل يخيفك هذا الثور ..؟ انه لاشىء فى نظرى ..!
ـ ولكنه فى نظرنا كل شىء ، انها لقمة العيش ، وأنت لاتعرفين الفقر أو الجوع ..
ومدت يدها .. وقالت بصوت حلو :
ـ شكرا ..
وسلمت عليها وانصرفت وابتلعنى الظلام ..
***
وكنت كلمـا ذهبت إلى منزلها لبعض العمل استبقتنى لتتحدث معى .. وكانت تكلفنى ببعض أعمال صغيرة ، وتسر جدا عندما أقوم بها على وجه سريع ..
ومضت الأيام ..
وذات مساء .. رأيتها خارجة بالزورق فى عرض البحر ، ولما شاهدتنى من بعيد .. أشارت إلىَّ بأن أقترب .. ولما اقتربت منها ألقت بالزورق إلى المرساة ودعتنى إلى الركوب ..
فرفضت وألحت ..
فقلت لها :
ـ ان هذا جنون ..! قد يشاهدك أحد ..
ـ سأسير بالزورق إلى نهاية المدينة من الشمال وانتظرك هناك ..
ولم تسمع جوابى وسارت .. وتبعتها وأنا مدفوع بقوة لاقبل لى على ردها .. ووجدتها راسية هناك فى جوف الخليج ، فركبت بجوارها وسارت فى عرض البحر .. وبعد قليل أوقفت المحرك ، وقالت وهى تنظر إلىَّ :
ـ دعنا نتمتع بجمال الطبيعة المحيط بنا ..
ولم يكن هناك جمال حولى سواها .. وأشعلت سيجارة وزمتها بين شفتيها الحالمتين ، وكانت تعرف أننى لا أدخن ، ومع ذلك قدمت لى سيجارة فأشعلتها ، وأنا أنظر خلال الدخان الأزرق إلى أعماق عينيها وأغوار نفسها ..
وسألتنى وقد ألقت بنظرها بعيدا ..
ـ أتحب الحياة ..؟
ـ أجل ..
ونظرت فجأة إلى شىء أسود يطفو على الماء ..
ـ أنظر ..
ونظرت إلىَّ فى خوف ..
ـ لا تخافى .. انه حيوان القرش ..
ولكنها ارتعدت وارتمت على صدرى والتصقت بى .. وبعد برهة وجدت شفتيها تحت شفتى ، فضغطت عليهما فى عنف وغبنا عن الوجود ..
***
ومضى اسبوع كامل لم أرها فيه ، وانشغلت بالحياة وما يجرى فيها فنسيتها ..
وذات غروب كنت نازلا من سلم بيتى الصغير فشاهدتها مارة فى الشارع .. وانتظرت حتى اقتربت منها وسألتنى :
ـ أهذا بيتك ..؟
ـ نعم ..
ـ ما أجمله ..؟
ـ ..........
ـ أتقيم وحدك ..؟
ـ أجل ..
ـ غدا سأخرج بالزورق .. وانتظرك هناك ..
ـ أرجوك أن تعفينى من هذا أرجوك ..
ـ ألا تزال تخاف من هذا الخنزير ..
ـ طبعا ..
ـ انه ليس برجل على الاطلاق ، سأنتظرك غدا عند الخليج .. بعد الغروب ..
***
وترددت فى الذهاب ، ثم ذهبت أخيرا وكانت هناك .. وكانت لى بكل جسمها ونفسها ..
ولمحت وأنا خارج معها من الزورق شخصا يرقبنا عن بعد ثم يختفى فى الظلام ، وكان فى شكله ومشيته بعينه زوجها ، ولكننى كتمت ما رأيت عنها .. واضطربت ضربات قلبى ..
وودعتها وفى رأسى خواطر مروعة ..
***
وذهبت إلى المكتب فى الصباح وأنا أحاول أن أبدو طبيعيا ، واجتهدت أن أقرأ شيئا على ملامح الرجل يدل على أنه كان يراقبنا ليلة أمس .. ولكننى وجدته على حاله ، فأيقنت أننى أخطأت النظر واطمأن قلبى ..
***
وأخذت تجىء بعد ذلك كلما سنحت لها الفرصة ، وكنت أحذرها من مغبة هذا ، ولكنها كانت لاتسمع كلامى ..
وسألتنى مرة :
ـ أتحبنى يا مراد .. أم تنتقم منه فى شخصى ..؟
ـ أقول لك الحق .. أننى لا أعرف ..
ـ وظهر على وجهها الغضب ، وارتدت وشاحها .. وخرجـت معها إلى الباب الخارجى .. وفوجئنا ونحن نجتاز العتبة بزوجها فى أسفل الدرج ..
ونظر إلىَّ باسما ثم أخرج غدارته فى لمح البصر وصوبها .. وارتمت هى فى تلك اللحظة على صدرى ، فأصابتها الرصاصة وهوت إلى الأرض ، وأخرجت مسدسى وأطلقته سريعا وأطلق هو .. ورأيته وهو ساقط ..
وسقطت أنا على حافة السور مثخنا بالجراح ..
====================================
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " عذارى الليل " سنة 1956وفى مجموعة " قصص من القنال " ـ مكتبة مصر
====================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق