الأربعاء، ٢٢ نوفمبر ٢٠٠٦

حانة المحطة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


حانة المحطة
قصة محمود البدوى

فرغنا من حصاد القمح وكومناه فى الأجران ودارت على القش النوارج .. وتركت كل شىء فى حراسة الشيخ عبد الحفيظ ، وركبت الفرس إلى حانة المحطة لأقرأ الجرائد وأعرف أحوال الدنيا والسوق .. وهى حـانة صغيرة على مسيرة ثمانية أميال من العزبة يملكها رجل يونانى ، وهى المكان الوحيد فى تلك المنطقة الفقيرة الكئيبة الذى تحس فيه بالحياة .. وتجد فيه فنجانا من القهوة وكوبا من الماء النقى .. وقد جعلها الرجل تحت أنظار الذين يخرجون من قطارات الركاب التى تقف على محطة بنى نافع ..

فهى قهوة صـغيرة وبار وبقـالة فى الدور الأرضى .. ثم سرير واحد .. فى الطابق الثانى للموظفين والتجار الذين يتخلفون من قطار الليل ولا يجدون سيارة أو ركوبة تنقلهم إلى بيوتهم .. ولكن نزلاء هذه الغرفة كانوا قليلين جدا على مدار السنة .. ولم يكن مخالى يحسب لهم حسابا .. ولهذا أقام هذا الطابق هو وزوجته .. وكانت عنايتة كلها متجهة إلى الحانة ..

وفى هذه الحـانة كنت أستريح كلما نزلت من القطار حتى تجىء الركوبة التى تنقلنى إلى العزبة وأعود إليها كلما أحسست بالفراغ والوحشة ..

وكان من زبائن الحانة المستديمين توفيق أفندى ناظر المحطة ثم عبد الجواد أفندى أمين شونة بنك التسليف .. ثم السيد حسن عبد المجيد وهو شاب مثلى من المزارعين وكان مقطوع الرجل اليسرى ولكنه خير من يركب على سرج وأبرع رجل فى الرماية ..

وكانت مدينة ديروط تبعد عنا ساعة كاملة فى القطار .. ولكننى لم أكن أحس فى محطة بنى نافع الصغيرة بالوحشة ..

وكان توفيق أفندى يحمل إلىَّ كل الجرائد والمجلات التى جاءت فى قطار الظهر .. وعطية الفراش يخدمنى ويذهب إلى كل مكان ..

ويجىء بالطعام من عند مخالى إذا ما رأيت أن آكل فى المحطة ..

وكنت أقرأ الصحف وأنا أستظل بشجرة فى داخل المحطة وأسمع حركة القطارات وصفيرها وجلجلتها على القضبان .. وحركة السيمافورات التى تفتح وتغلق كلما مر قطار .. وأرى أسلاك التليفون والبرق وهى تهتز وأعمدتها تئز كلما مر الاكسبريس وهو يثير زوبعة من الغبار ..

وكنا نسهر فى الحانة ونسكر .. وكان يمر علينا تجار الغلال والماشية فنعرف منهم كل أحوال السوق .. فإذا ما مر قطار الساعة الحادية عشرة ليلا وهو آخر قطار يقف فى المحطة .. فرغت القهوة والبار من روادهما .. وجلس توفيق أفندى وعبد الجواد أمين الشونة وحسن عبد المجيد حول المائدة يلعبون القمار وكنت أجلس لأتفرج ولا أشترك معهم فى اللعب إلا قليلا ..

وكانوا يلعبون فى أكثر الحالات إلى الصباح .. ثم يذهبون إلى عملهم محطمين من التعب وأعود أنا إلى العزبة لأنام إلى الضحى .. وكان مخالى يتقاضى جنيها كاملا أجرا للمائدة .. وكنا نصرف أضعاف هذا المبلغ على الطعام والشراب ، والواقع أنه كان يعتمد علينا اعتمادا كليا ..

وكنت قد شغلت كلية بالحصاد ، فلم أذهب إلى الحانة طيلة أسبوعين ، فلما عدت إليها بعد هذه الغيبة وصعدت إلى الدور الثانى كعادتى لأغسل وجهى من تراب الطريق لمحت فتاة جالسة فى الغرفة الداخلية وكان وجهها إلى النافذة .. وظهرها إلىَّ فلم أتبين ملامحها ، وإنما رأيت ثوبها وجسمها وهى جالسة على الأريكة .. ولما أخذت طريقى إلى السلم لمحتنى فأعطتنى نصف وجهها ..

***

وأصبحت أرى الفتاة كلما جئت إلى الحانة .. وكانت تساعد مدام مخالى فى عملها ، وعلمت أنها أخت المدام ، وأنها كانت تعيش فى الإسكندرية وجاءت بعد أن مات زوجها .. ولم أكن أبيت فى حانة المحطة قط .. وإنما كنت أستريح فقط فى النهار على كنبة أو حشية فى ساعات القيلولة .. ولكننى بعد أن وقع نظرى على " أتينا " واستملحتها ، كنت أصعد إلى الدور العلوى .. لأستريح فى النهار والليل .. وبدلا من تناولى الطعام فى البار كنت آكل فى الطابق الثانى ، وكانت أتينا تعد لى المائدة وتقدم الطعام والشراب .. وكنت أشرب الكونياك فى أغلب الأحيان وأظل أتحدث مع مدام مخالى وأتينا .. حتى أسمع صياح حسن عبد المجيد فى الدور الأرضى فأعرف أنهم بدأوا يلعبون القمار .. وكانوا يلعبون يومين أو ثلاثة فى الأسبوع .. دون انقطاع عندما كان يكتمل عددهم ويعود الموظفون منهم الذين ذهبوا للتفتيش .. والواقع أنهم كانوا جميعا يحسون فى أعماقهم بالتعاسة ويشكون من الخمول والفراغ ، وكانوا يحسون بالفراغ أكثر فى المساء إذ لم يكن هناك ما يشغلهم على الاطلاق وكنا نشكو جميعا من الملال والضجر ، ونجد فى حانة المحطة البلسم لجراحنا . وكنا فى أيام الصيف المتقدة نتعذب من الغبار والذباب والظلام الذى حولنا وفى نفوسنا .. فإذا فرغنا من أيام الحصاد وجمعنا المحصول .. طرنا إلى المدينة لننعم بما فيها من أنوار ..

وكانت حانة المحطة التى تضاء " بالكلوب " هى مقصدنا والنور الوحيد فى الظلام المحيط بنا ..

وكنت عندما أسمع صياح حسن ورفاقه فى الدور الأرضى أهبط إليهم وأحاول أن أعيدهم إلى الهدوء .. وكانوا يلعبون القمار كمحترفين وتستغرق اللعبة حواسهم كلها .. وكنت أراقبهم عن كثب وأدرس وجوههم وانفعالتهم .. وكان الواحد منهم يتشاءم لمجرد تغيير الكرسى الذى يجلس عليه والكوب الذى يشرب منه .. أو إذا وقف مخالى على رأسه .. أو إذا وضعت له أتينا الكأس على حافة المائدة من الناحية اليسرى ..! كانوا يتشاءمون من أشياء تبعث على الضحك .. وكان القمار يستغرق حواسهم فلم ينظر أى واحد منهم إلى أتينا نظرة اشتهاء رغم أنوثتها الصارخة ، ولقد أدركت من هذا سلطان القمار على النفس .. فهو يقتل الرغبة فى النساء .. وهذا أعظم سلطان ..

وكان مخالى يغلق باب الحانة المؤدى إلى الشارع .. ويبقى الباب الداخلى الصغير المفضى إلى الدور العلوى ..

وكانوا ينتهون من اللعب فى الساعة الثانية أو الثالثة صباحا .. ويخرجون صفر الوجوه محطمين جميعا جائعين إلى النوم ..

وكان الذى يكسـب فى أغلب الحالات هو عبد الجواد أمين الشونة .. وقد عجبت أول الأمر للحظ الذى يواتيه على طول الخط ثم علمت أنه يغش فى اللعب ، وكان سكيرا ومقامرا ومرتشيا ، ويسرق من محصـول الفلاحـين المساكين الذى يقدمونه للشونة فى عملية الحيازة .. فيأخذ من كل اردب كيلة كاملة لنفسه يسرقها فى الميزان ..

وكان جميع الفلاحين يعرفون ذلك .. ولكن ما ما من واحد منهم كان يستطيع أن يفتح فمه ..

ولم يكن يفعل هذا إلا مع صغار الفلاحين ، أما كبار المزارعين .. فكان يخشى بأسهم ويتقرب إليهم ويجعل منهم ستارا وحماية ..

وكان قد أخذ يشترى الأطيان من الفلاحين بعد أن يقرضهم بالربا الفاحش ويجدوا أنفسهم عاجزين عن السداد . ثم أخذ يستأجر العزب الكبيرة ويؤجرها للفلاحين .. وكان حسن عبد المجيد يكرهه لهذا ويجد فيه دخيلا على المنطقة ومنافسا خطيرا وكانت هذه الأحقاد المكتومة تنفجر فى ساعة القمار ..

ولم أكن أنا أشفق على أحد منهم إذا ما خسر فى الليلة الواحدة خمسة أو عشرة جنيهات ، لأنهم أثرياء ويأتيهم المال من عرق الفلاح المسكين .. وإنما كنت أشفق على توفيق أفندى ذلك الموظف المسكين الذى جره الفراغ والتعاسة إلى هذه اللعبة القاتلة ..

***

وذات ليلة نمت فى الدور العلوى من الحانة لأننى كنت قادما من ديروط ولم أجد الركوبة فى انتظارى لتنقلنى إلى العزبة ..

وأعدت لى مدام مخالى سريرا نظيفا .. وعشاء ساخنا .. فجلست بعد العشاء أدخن .. وأنظر من نافذة الغرفة إلى ما حولى من ظلام وسكون .. وكانت المحطة هناك على مرمى البصر وليس فيها أى شىء سوى مصباح ضئيل أحمر .. تتراقص ذبالته كلما تحرك الهواء ..

وكان الشىء الوحيد الذى يسمع صوته هو أسلاك البرق وحركة السيمافورات الأتوماتيكية . وكان خفير المحطة يتحرك فى الظلام على الرصيف مقبلا مدبرا .. ثم يضع البندقية بين رجليه ويجلس على زكائب من الغلال فى انتظار الشحن .. وكان منظر مكتب التذاكر ومكتب الناظر وخلفهما بستان من النخيل قد زاد المكان جهامة ووحشة .. وكانت أنوار القرى الصغيرة تبدو من بعيد .. وبعض الفلاحين يشعلون النيران فى الحقول . أما قرية نافع والعزب المجاورة لها فقد كانت غارقة فى ظلام دامس وليس فيها أى دليل على الحياة ..

ومر قطار بضاعة طويل وكان قادما من أسيوط وأخذ يصفر .. فبعث الحياة فى المكان ..

وكان الجو حارا فتركت الباب والنافذة مفتوحتين ليمر الهواء وأطفأت المصباح البترولى وتمددت على السرير وقد شعرت بطراوة الهواء وبالسكون .. وسمعت صوت مخالى وهو داخل فى الردهة لينام .. ثم أحسست بنور غرفته يطفأ وبقى فقط المصباح البترولى الصغير فى الردهة .. وكان يلقى ضوءا لينا على مدخل البيت ..

ومرت أكثر من ثلاثين دقيقة أخرى وأنا متيقظ ثم رأيت نورا جديدا يدخل الردهة .. وبابا يفتـح .. ودرت نصف دورة على السرير .. ورأيت أتينا فى غرفتها من بابها المفتوح .. تجلس نصف منحنية على الكنبة الوحيدة .. وفى يدها سيجـارة .. ولم أرها تدخن قبل هذه اللحظة .. وخيل إلىَّ أنها تأكل السيجارة ولا تكتفى بسحب دخانها .. وكان شعرها يغطى نصف وجهها وقميص نومها ينحسر عن الساق اليمنى حتى الفخذ ويغطى الساق الأخرى كلية .. وبدت خطوط جسمها واستدارة كتفيها وضغطة الرأس الصغير على العنق .. وانتصبت وغابت عن بصرى لحظة وعندما عادت إلى مكانها .. انحنت قليلا على المصباح لتخفف من نوره ..

ثم تلفتت كأنها تبحث عنى أو كأنها تخشانى .. ثم استقر رأيها .. وأخذت تخلع القميص وفى نفس اللحظة أغلقت عينى .. كأننى لا أستطيع الصمود أمام هذه الفتنة الطاغية .. وسمعت بعد دقيقة واحدة المفتاح يدور فى قفل الباب ..

***

وفى الصباح دخلت علىَّ الغرفة بصينية الشاى وسألت :
ـ نمت كويس ..؟
ـ خالص .. هواء جميل ..
ـ الغرفة الثانية بحرية وفيها هواء أكثر .. تعال شوفها ..

ومشيت وراءها إلى الغرفة التى نامت فيها .. ورأيت آثار جسمها على السرير ..
ـ أعجبتك ..؟
ـ طبعا هذه أحسن .. ولكنك تنامين فيها .. فهى لك ..
ـ لا .. سنجعلها لك .. حتى تنتهى من المحصول ..
ـ لقد أصبحت ريفية وتعرفين المحصول .. ومواعيده ..
ـ عشت طويلا فى الريف .. فى نجـع حمادى .. فى البلينا .. فى المنيا ..
ـ قبل الجواز ..؟
ـ وبعده ..
ـ وستمكثين طويلا هنا ..؟
ـ لا أدرى .. وقد أسافر فجأة .. كما جئت فجأة ..!
وكنا نتحرك تجاه الباب معا ..

وعند المصراع المفتوح اقتربنا وكدنا نلتصق .. ورأيت صدرها العارى يتحرك مع أنفاسها .. وأخذت أقاوم رغبة عنيفة فى ضمها إلى صدرى .. فوقفنا دون حركة على العتبة نصف دقيقة كاملة ونحن نتبادل النظرات الملتهبة .. وسمعت صوتها أشبه بالهمس :
ـ اتفضل ..
فتحركت إلى الخارج وكأنى خارج من دوامة ..

***

وأخذت أبيت عند مخالى .. وأباشر عملى فى العزبة .. وازددت قربا من أتينا .. وكانت تحادثنى بحرية المرأة التى خرجت إلى الحياة .. وذهبت إلى أكثر من مدينة وعرفت ألوانا وأشكالا من الناس ..

وكانت امرأة ككل النساء اللواتى عرفتهن فى الحياة .. لكن كانت غليظة الشفة سوداء الشعر جدا .. واسعة الفم والعينين .. وكان صوتها أشبه بصوت الكروان .. وكنت أسمها تغنى غناء خافتا وهى تعمل فى المطبخ ، وبدا لى أن أسألها هل اشتغلت بالغناء ، فقد كانت تغنى وكأنها تصاحب الأوركسترا ..

وكان مخالى يقدم الطعام لمعظم الموظفين وتجار المواشى والغلال الذين يمرون فى المنطقة فى فترة المحصول .. لأن القرية كانت بعيدة عن المحطة .. وكانت زوجته وأتينا تصنعان الطعام كله .. وكانت الفلاحات يحملن له حتى الباب كل ما يحتاج إليه .. الطيور والبيض والخضار ويختار منها أجود الأصناف .. وكان الفلاحون يقولون عنه أنه جمع ثروة طائلة لأنه يعمل فى الريف المصرى منذ أربعين سنة ..

وبعد العمل فى البيت ، كانت أتينا تجعل كل وقتها لى .. وشعرت نحوها بالحب الممزوج بالشفقة لأن مخالى كان يتقاضى أجر اقامتها عنده أضعافا مضاعفة .. ويجعلها تعمل خادمة وطاهية وغسالة وحائكة للملابس ..

كل الأعمـال التى تجيدها النسـاء ، ويحرمها من لذة الحب والراحة ..

وكانت إذا رأتنى فى الظهر وأنا أستريح ساعة القيلولة يبدو الفرح على وجهها .. لأننى الوحيد بين الذين رأوها الذى أعارها انتباهه ..

وكنت معها ذات غروب عندما لمحت وأنا أحرك يدى على صدرى خطا أسود بجانب الكتف ..
فسألتنى :
ـ جرح ..؟
ـ رصاصة قديمة ..
وفتحت فمها من الذعر فقلت لها بأسى :
ـ رصاصة أطلقها أخ لحسن .. الشاب المقطوع الرجل الذى ترينه فى الحانة .. وكنا فى سامر ورأى الراقصة .. فاهتاج وأطلق الرصاص ليفض السامر .. وأنا من وقتها وأنا أكره السامر والسمر .. والنساء ..

وسألتنى وهى باسمة :
ـ ولماذا تعيش فى الريف ..؟
ـ ما من ذلك بد .. جئت مضطرا بعد وفاة والدى .. وكنت أود أن أدير شئونى وأنا فى المدينة .. ولكننى وجدت أن ذلك مستحيل .. فأنا أسرق وأنا موجود من حراس الزراعة ومن الفلاحين ويضيع ربع المحصول .. فكيف إذا غبت عنهم ..

ان الفلاح يعتقد أننا نأخذ منه قوت عياله .. وهو على حق فى اعتقاده لأنه يشقى .. ويفلح الأرض ويعمل طول السنة .. ونحن لانعمل أى شىء ونستولى على المحصول . فهو مظلوم من مئات السنين ويحس بالظلم أكثر عندما يرى غرسه يذهب لغيره .. وبشعور الظلم هذا يسرق ويقتل ويفعل كل ما ينفس عن هذا الظلم .. وعندما جئت إلى هنا منذ عشر سنوات حاولت أن أكون عادلا ، فأعطيت الكثير منهم فدانين وثلاثة .. ليزرعوها لأنفسهم نظير ايجار معقول .. وبذلك يحسون بكرامة الإنسان ..
ـ ولماذا لم تتزوج .. أما زلت تكره النساء ..؟
ـ فى الواقع لايوجد سبب معقول .. وقد أكون استطبت هذه الحياة .. والآن فات الأوان ..
ـ لماذا ..؟
ـ هذا هو احساس الرجل بعد سن الثلاثين ..
ـ ولكن الزواج قبل هذا حماقة ..
ـ الرجل يتزوج فى سن العشرين فى الريف .. فإذا ضاعت منه الفرصة فى هذه السن .. فاته القطار ..
ـ ولكنك فى أنسب سن الزواج ويجب أن تتزوج ..
ـ ولماذا تصرين على زواجى ..
ـ لأنى أخشى عليك من الخمر .. والقمار .. أخشى عليك من الدمار ..
ـ ولماذا لاأسكر وأشرب وأنا متزوج ..؟
ـ لأنك لن تشعر بالفراغ .. ولا بالتعاسة التى يخلقها الفراغ المطلق للإنسان .. عندما يكون فارغا يدور حول نفسه .. ولكن عندما تتزوج ستشعر بعظم الحياة ولذة الكفاح لإسعاد أسرة ولاتجد لحظة لتفكر فى نفسك .. تعيش لغرض أسمى ..
ـ ألم يلعب زوجك القمار ..؟
ـ لو كان مقامرا أو سكيرا لقتلته .. ان المرأة تكره هذين كرهها للشيطان ..
ـ ولهذا تكرهيننى ..!
ـ اننى لا أكرهك ..
ـ ولا تحبيننى كما ..
ـ باستا .. باستا ..

ولا أدرى لمـاذا اختـارت هـذه الكلمة الإيطالية وخرجت مسرعة ..

***

وذهبت إلى العزبة لأدخل الغلة فى الشونة .. وأقمت فى عريشة ..

وكان النهار يمضى مملا محرقا وليس فيه حركة .. وفى الأصيل كانت تبدو الحركة .. تخرج الطيور لالتقاط الحب والأغنام ترعى .. والجاموس والأبقار والجمال تتحرك فى الحقول .. والنساء يذهبن إلى النيل لملء جرارهن .. وكانت طريقهن بجوار العريشة .. ولكنهن لاحظن وجودى فغيرن الطريق إلى أبعد .. فإن وجودى فى العزبة كان يقيد من حريتهن ..

وفى الصباح كن يذهبن .. لملء الجرار قبل أن تطلع الشمس وكنت أراهن راجعات من النيل ، وأرى واحدة فى كل سرب وقد ابتل ثوبها والتصق بجسمها ، فأعرف أنها نزلت فى النيل لتستحم وهى لابسة جلبابها الوحيد ..

وكنت أرى تقاطيع هذه الأجسام جميلة طبيعية تبدو فى نضارتها وفتنتها ، وأشعر بلسعة كأننى اكتويت بالنار ..

وكنت أتمشى ذات يوم بعد الفجر على الطريق الزراعى الضيق المؤدى إلى الشـاطىء ، ولمحـت من بعيـد ثلاثا من النسـاء يمـلأن " البلاليص " وقد شمرت إحداهن عن ساقيها وفخذيها .. وحلت شعرها وخلعت جلابيتها السوداء وبقيت فى قميص .. وأخذت تدعك ساقيها وفخذيها بالصابون ، وبصرت بى إحداهن .. فحدثت زميلتيها ، فظهر الذعر عليهن جميعا وغصن بملابسهن فى الماء ..

وتراجعت آسفا ضاحكا ولم أذهب إلى هذا المكان مرة أخرى ..

وعندما انتهيت من نقل الغلة إلى شونة بنك مصر رجعت فى الليل إلى حانة المحطة .. وطلبت من أتينا أن توقظنى قبل قطار الركاب فى الساعة الرابعة صباحا ..
فقالت :
ـ ولماذا تنام .. ابق صاحى أحسن ..
ـ سأنام ولو ساعتين .. وأرجو أن ألحق القطار ..
وبعد ساعة جاءت ضاحكة ونادتنى ..
ـ يا سيد ابراهيم .. اصح الساعة قربت على الرابعة ..
ـ كم الساعة حقا ..؟
ـ نصف الليل ..

كانت واقفة على العتبة وممسكة بيدها اليمنى مصراع الباب من أعلى وواضعة خدها على يدها .. وثانية رجلها اليمنى .. نصف مسترخية ونصف حالمة ..
فقلت لها وأنا مسرور بجمالها :
ـ ما أحلاك الليلة ..
ـ ألأنى أيقظتك .. تقول لى هذا الكلام ..
ـ لم أنم ..

واستويت على أرض الغرفة .. ورأيت النيل تبدو صفحته تحت ضوء القمر .. ومركبا واحدا يسبح ضد التيار ..
وقلت لها :
ـ اننى كلما رأيت مركبا على النيل .. تخيلتك معى هناك .. ولا أحد سوانا ..
ـ هل أعمل لك شاى ..؟
ـ هل فى كلامى ما يسوء ..؟
ـ لا .. ولكن ما هى النتيجة ..
ـ وهل من الضرورى أن يكون لكل شىء نتيجة ..
ـ هذا ضرورى .. بالنسبة لإحساسى كأنثى ..
على أى حال أنا أعتبر نفسى سعيدا .. سعادة لا تقدر ..
ـ لماذا .. من الغريب طبعا .. أن تصادف امرأة شابة مثلى فى حانة وتجد شبه فندق فى هذا المكان .. فى قلب الصعيد .. وأنا نفسى تساءلت لماذا اختار مخالى هذا المكان المقفر ليجعله مورد رزق له .. ثم علمت أن سوق القرية كان قريبا منه عندما اختار هذا المكان .. ثم انتقل السوق إلى ضفة الابراهيمية القريبة وبقى مخالى هنا ، على أى حـال لقـد أصبح كهلا .. ويريد أن يستريح ، لقد أدى دوره فى الحياة ..
ـ وأنت ..؟
ـ لقد انتهى دورى قبله .. وأسدل الستار ..
ـ انك شابة جميلة .. وأمامك الحياة الضاحكة بكل ما فيها من سعادة ..
ـ انك لاتفهم شعور المرأة عندما يموت زوجها وهى صغيرة .. ويكون هو شابا مثلها .. يصيبها خدش طويل كهذا الذى تراه على لوح من البللور ..
ـ هل كنت تحبينه ..؟
ـ إلى درجة العبادة .. كان شابا مثلك .. طويلا قويا .. وكان يكسب .. وكله أمل فى المستقبل .. ولكنه ذهب .. كالحلم .. ما من شىء يبقى فى الحياة ..
ـ اننى أفكر فى الذهاب إلى القاهرة لأقضى عشرة أيام بعد أن انتهيت من القمح .. فهل تذهبين معى ..
ـ لا ..
ـ لماذا ..؟ لأننى مصرى أولا وريفى ثانيا .. وستشعرين معى وأنت أجنبية بأنك غريبة عنى ..
ـ هل من الضرورى أن أقول لك أننى بقيت عند مخالى .. لأنك جئت وليس لأننى أستطيب الحياة هنا ..
ـ أعرف أنك مستريحة لوجودى ..
ـ لماذا إذن تكثر من الكلام ..
ـ لأننى أحببتك من أول لقاء ..
ـ باستا .. باستا ..
وخرجت ضاحكة ..

***

وذات ليلة عدت من العزبة متأخرا وقبل أن نقترب من المحطة .. دوى الرصاص قربنا .. وعرفت أنا والخفير الذى معى أن اللصوص سرقوا ماشية من الحقول .. وأحس بهم خفراء النقطة .. فاشتبكوا معهم فى معركة حامية .. ولا أدرى من الذى أشاع أننى قتلت .. فقد خرج الفلاحون بسلاحهم لملاقاتى .. وعندما وجدونى حيا .. التفوا حولى يهنئونى .. وانصرف الناس .. وبقيت فى الحانة مدة ساعة .. وجاء مخالى والمدام .. مسرورين .. بحياتى .. ولكن لم أر أتينا .. فتألمت وتصورتها سافرت .. ولكن عندما صعدت لأنام .. وجدتها واقفة وحدها فى الظلام على بسطة السلم ، وعندما اقتربت منها ارتمت على صدرى وشدتنى إليها وهى تبكى دون صوت ..
وقلت لها هامسا :
ـ اتركى باب غرفتك مفتوحا الليلة ..
فقالت وهى تمرغ خدها على لحمى :
ـ فوق .. فى السطوح .. أحسن ..
ولم أنم ، وبعد نصف الليل جاءت حافية ترتدى قميصا واحدا .. وطلعنا إلى السطح .. ولم نجد أى شىء نفرشه على التراب .. فخلعت قميصها ..
وسألتنى وأنا أمسح بيدى على شعرها :
ـ ألم تحب .. قط ..؟
ـ قبلك .. لأ ..
ـ وهل بيننا حب ..؟
ـ جنون ..
ـ تقول هذا الآن لأنه مضى عليك شهر وأنت بعيد عن المدينة .. وعن النساء .. ولكن عندما ترجع إلى هناك ستنسى .. تنسى كل ما حدث ، أنك تحب الأرض التى تزرعها .. ولا شىء غير ذلك .. وأنا لست عندك أكثر من بقرة .. فلا تخدعنى ..
ـ وهل أنا ملتصق بالأرض إلى هذا الحد ..؟
ـ ولكنـك التصقت بها .. وكل النـاس يتحدثون عنك .. كفلاح .. يعيش للأرض .. لأنها تعطيك أكثر من أى شىء آخر فى الحياة ..
ـ وهل يمنعنى هذا من الحب ..؟
ـ حب ريفية مثلك ..
ـ يعنى أقطع الأمل إلى الأبد ..
ـ أنا حبيبتك ما دمت هنا ..
ـ إذن سأظل هنا حتى الموت ..
وشعرت بها تمسح بشفتيها على جرحى .. وسألت :
ـ هل تتألم من هذا الجرح ..؟
ـ انه مات ..
ـ آسفة .. كنت أحب أن أولمك ..
ـ بأسنانك ..
ـ وبأظافرى .. أريد أن أجعلك تدمى .. هذا شعور غريب .. ربما لأنك أقوى .. ولأنك رجل .. لا أعرف ..
وظللنا نتناجى حتى طلع القمر ..

***

وفى الليلة التالية .. قمت فزعا من نومى على صياح فى الحانة .. ثم تبينت صوت توفيق أفندى .. ثم صوت حسن عبد المجيد .. وعلا الصياح فنزلت مسرعا .. ووجدت توفيق أفندى يستعطف ويبكى وهو فى حالة يرثى لها .. فقد خسر عشرين جنيها .. ولم تكن نقوده ، وإنما كانت ايراد المحطة .. وقال لهم وهو يبكى أنه سيسجن .. وتوسل إليهم أن يعطيه كمبيالة بأى مبلغ نظير أن يرد إليه نقود الحكومة ، وكان يخاطب عبد الجواد أمين الشونة لأنه هو الذى كسب منه المبلغ .. ولكن عبد الجواد لم يستمع إلى رجاء .. وتدخلنا جميعا ولكنه أصر على عدم رد مليم واحد .. وهنا ثار حسن عبد المجيد .. ووقف يزأر :
ـ أعطه الفلوس .. طلعها من جيبك حالا ..
ـ بأى حق ..؟
ـ لأنك لص وغشاش .. وحقير .. ومرتشى .. وكل الناس تعرف عنك هذا ..
ـ أنا يا كلب ..
ـ أنا كلب يا حرامى ..؟ خد ..

وأخرج حسن مسدسه سريعا وأطلق النار .. وسقط عبد الجواد صريعا .. وبين دوى الرصاص والصياح والذعر .. ظهرت أتينا على الباب وكنت منحنيا على عبد الجواد فحسبتنى أنا الذى أصبت .. فجرت وارتمت على صدرى ..

وفوجىء الحاضرون وأخذوا بهذا المنظر .. حتى نسوا من فرط الدهشة القتيل الذى سقط منذ لحظة ..

====================================
نشرت القصة بمجلة الجيل فى 27/6/1955 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى
بعنوان ....." و قصص من القرية " ـ مكتبة مصر
====================================


ليست هناك تعليقات: